https://www.facebook.com/nasr.sami.397/

jeudi 25 mars 2021

#بيير_بورديو . #عالم_الإجتماع_الثائر

 



فرض بيير بورديو «1930-2002» نفسه ،كأحد كبار وجوه السوسيولوجيا المعاصرة ، و ما بين أعماله الأولى حول سوسيولوجيا الجزائر (1958) و إصداراته المتولدة عن محاضراته ألقاها بثانوية فرنسا التي تم تعيينه بها أستاذا سنة 1981 ، ألف ثلاثين كتابا و عشرات المقالات ، شكلت أحداثا في عالم السوسيولوجيا .
القوانين الخفية للفكر :
على شاكلة العديد من الأعمال ، يجد فكر بورديو ،جذوره في تجربة شخصية . فبحكم انتمائه لأسرة شعبية، و بولوجه المدرسة العليا للأساتذة سنة 1951 ، وجد نفسه وسط شباب ينحدرون من الطبقة البورجوازية ، يتمتع بثقافة و نمط عيش كان من الصعب التعايش معها ،إلا من خلال تمرير فكره عبر الجهد المستمر للتحكم الذاتي . في كتابه الورثة (كتبه بمعية باسرون1964) ، يقدم بورديو وصفا لهؤلاء الطلبة البورجوازيين :إن هؤلاء ذووا الامتياز ، يرثون تركة ثمينة رغم كونها خفية ، و إنما عن طريق المدرسة (رأس المال الثقافي ) ، و تنذر أفضل عناصر هذه النخبة لشغل المناصب العليا للدولة.
فيما بعد سيخصص لهم بورديو أحد أكبر مؤلفاته «نبل الدولة 1989». بالنظر لعدم انتمائه إلى عالم البورجوازية ، أحس بورديو بالتفاوت بين عالمه الأصلي و العالم الذي يتجه إليه، و هذا التفاوت بالتحديد ، هو الذي يمكنه من رؤية ما ليس بإمكان الآخرين أن يروه ، و كل ما يتعلق بالشفرات الضمنية و الرتابات و الحيثيات التي تتحكم في عالم الأفكار . انطلاقا من ذلك ، سيقتضي فكر بورديو ، برمته تجريد العالم الاجتماعي من هويته ، و الكشف عن قواعد اللعبة في عالم المثقفين و العلماء المفكرين.
يصف بورديو في كتاب إعادة الإنتاج، الآلية الخفية للانتقاء الاجتماعي من قبل المدرسة ، فالمجتمعات في ظل النظام القديم كانت تنقل انتماء طبقيا و لقبا تشريفيا و وضعا اجتماعيا ،أما المجتمع البورجوازي ،فإنه ينقل إلى أبنائه رأس مال ،بمعنى إرث. و باسم المساواة بين الجميع ،قامت الجمهورية بمكر ، و من دون أن تدري بإعادة إرساء حاجز طبقي جديد ، ألا و هو حاجز الثقافة الذي تنقله الشهادة، و يعد الإرث الثقافي أثمن ،خاصة ، و أنه خفي ، فهو يعاش وفق نمط الموهبة و الذكاء الفطري و الأفكار البحتة.
فيما بعد ، قام بورديو بتمديد تحليله للهيمنة إلى الممارسات الثقافية من خلال كتاب فن متوسط (تأليف مشترك مع بولتانسكي و كاستل و شامبوريدون 1965). و كتاب حب الفن (تأليف مشترك مع دار بيل 1966). ثم الكتاب الذي يمثل رائعة أعماله .التميز 1979. و الذي يعد من خلال عنوانه الجزئي «النقد الاجتماعي للحكم ». تحديا لكانط و لنقده للحكم. ذلك أن هذا الفيلسوف الألماني كان يريد شرح معنى الجمال من خلال حكم تنزيهي و ذاتي . بالنسبة إليه ، يبقى الحكم الجمالي مسألة تتعلق بحسن أو بفساد الذوق الشخصي ،بينما أراد بورديو أن يوضح بأن الذوق مسألة تتعلق بالوسط الاجتماعي،إذ أننا نحب التشكيل التجريدي أو الانطباعي أو فن الإغاثة داخل مجموعات اجتماعية مختلفة، و بالمثل ،تبقى موسيقى الجاز و الأكرديون و الموسيقى الكلاسيكية ، موسومة ببصمة اجتماعية ،كما أن الذوق يرتبط بالحضوة، إذ أننا نحب أو نكره على أن نحب موسيقى فن التشكيل أو كاتب أو عالم اجتماع من زاوية هاجس التميز.
بيير بورديو و النظرية السوسيولوجية
إن ما يطبع النظرية الإجتماعية عند بيير بورديو ، كونها تحاول إعادة إنتاج المجتمع ضمن عالم رمزي ،يحمل في طياته بعدا إمبريقيا ، و قد عبر عن ذلك بقولته الشهيرة:"النظرية بدون بحث إمبريقي خواء ، و البحث الإمبريقي بدون نظرية هراء".
إن سوسيولوجيا بورديو حريصة حرصا شديدا على ضرورة تحويل السوسيولوجيا إلى علم كباقي العلوم ، له لغته الخاصة به و قوانينه و مبادئه التفسيرية و نظرياته القائمة بذاتها ، و لذلك لا نجده يتردد في استخدام كل الأدوات و الأسلحة الممكنة ،لتحويل الخطاب السوسيولوجي إلى خطاب علمي ممنهج ، فهو بذلك يوجه " النقد الصارم لمجموعة من النزوعات المنتشرة كثيرا بين علماء الاجتماع و التي أساءت إلى هذا العلم و منعت تطوره في اتجاه بناء نظرياته كالنزعة الاقتصادية "التحليل الماركسي" التي تفسر كل شيء بالعودة إلى الاقتصاد ،و النزعة الوصفية التي تكتفي بملاحظة الوقائع و الظواهر الاجتماعية دون أن تفسر في النهاية شيء ".
لا ينظر بورديو إلى المجتمع كظواهر اجتماعية جاهزة يقوم الدارس بوصف أوجهها و أجزائها في وضعها الخام ،بل كموضوع للبحث العلمي. و بعبارة أخرى فهو ينظر إليه كعملية تقوم على التمييز بين مجموعكة من الحقول المختلفة بحيث لا يمكن فهم مستوياتها إلا بالنفاذ إلى نسق من العلاقات الجهوهرية التي كانت بعيدة من قبل عن المساءلة .
إن موضوعات العلم لا توجد على نحو جاهز و بشكل مباشر في الواقع ، و لا يمكن تفسيره انطلاقا من التمثلات الحاضرة عند جميع الأفراد و التي لها ارتباط بالحس المشترك.
و من هذا المنطلق يقول يقول بيير بورديو «إن تشييد الموضوع العلمي يعني أولا و قبل كل شيء قطع أواصر الصلة بالحس المشترك أي ببعض التمثلات التي يقتسمها الجميع ».
فما هو مشيد مسبقا يوجد في كل مكان، و يجد السوسيولوجي محاصرا به مثل جميع الأفراد ، فهو ملزم بأن يعرف عالمنا «العالم الاجتماعي » و الذي يعتبر نفسه نتاجا له.
لكن الطابع التجديدي لمقاربة بيير بورديو التي وصفها البعض بالثورة الرمزية المماثلة لتلك الثورات التي نراها في الحقول العلمية الأخرى يكمن في إرادته تجاوز التقابلات التقليدية في علم الاجتماع بين الموضوعاتية و الذاتوية و بين الرمزي و المادي ،و بين الشمولي و الفردي من أجل تأسيس مقاربة يمكن تسميتها بالبنيوية التكوينية أو البنائية النشوئية أو البنائية التوليدية.
و قد أثارت أعمال بورديو العديد من النقاشات و الانتقادات لكونها تعرضت لمواضيع متنوعة انطلاقا من المنزل القبائلي إلى نشأة الدولة مرورا بالحقل الاقتصادي و الهيمنة الذكورية و النظام التعليمي و الأدب و اللباس الفاخر و فلسفة هايدجر و أساليب الحياة..
و من التساؤلات التي طرحها بيير بورديو :
*ما هو علم الاجتماع و ما هو دوره؟
*ما هو المجتمع و كيف يعاد إنتاجه ؟
*هل يتغير المجتمع ؟
ما هي مكانة الفرد ؟
يؤكد بيير بورديو مثل دور كايم على إمكانية المعرفة الاجتماعية للعالم الاجتماعيLE MONDE SOCIAL و هي معرفة تتميز بخصوصية موضوعها كما تعرف من خلال خصوصية طريقتها المنهجية.
و كما هو الحال عند ماركس ،يرى بورديو أن المجتمع مكون من طبقات اجتماعية متصارعة بغرض امتلاك الرساميل المختلفة ، و أن علاقات القوة تساهم إما في استدامة النظام الاجتماعي، و إما في إعادة النظر إليه.
و على غرار ماكس فيبر يذهب بورديو إلى أنه من الضروري الأخذ بعين الاعتبار التمثلات الاجتماعية المصاغة من قبل الأفراد لإعطاء معنى للواقع الاجتماعي . و بالموازاة مع ذلك شهد عصره انتصار البنيوية.
يتعلق الأمر بمحاولة الوصول إلى تفسير علمي في شكل بنى . و البنية تتمثل في جملة من العناصر المشكلة لنسق، و تكون العناصر المتداخلة فيما بينها بحيث تشكل كلا منظما إلى درجة أن أي تغيير في واحد منها يترتب عنه تحول في كل العناصر الأخرى. و قد استعمل مفهوم البنية في ميادين عديدة:
-في اللسانيات مثلا من طرف دوسوسير.
-و في الأنثروبولوجيا من طرف كلود ليفي ستراوس.
-و في الفلسفة من طرف ألتوسير.
كما أن تأثير الماركسية ظل حاسما في هذه المرحلة ، و سيكون الاجتياح الفكري الذي حققته البنيوية وراء محاولة التقارب بين هذا التيار و الماركسية.
و بالفعل فإن لويس ألتوسير يقترح ماركسية بنيوية و هي قراءة تحاول أن تبين الطابع العلمي لمؤلفات ماركس.
و يمكن القول أن الدراسات الأولى لبيير بورديو اهتمت بالأنثروبولوجيا و الإثنولوجيا دون أن تدخل ضمن البنيوية الكلاسيكية .
و هكذا بعد تكونه في الفلسفة و تحوله إلى الأنثروبولوجيا اكتشف بورديو شيئا فشيئا علم الاجتماع و لم يحدث ذلك بدون قطائع.
لم يتوقف نقد بيير بورديو للتصورات الماركسية ورفع الستار عن عوائقها بل ذهب إزاء ذلك إلى البحث عن إجابات سوسيولوجية للظاهرة الاجتماعية عن طريق ابتكاره لمجموعة من المفاهيم الأساسية:
* مفهوم الحقل: من الإبداعات التي ارتبطت باسم بيير بورديو نحته لمفهوم الحقل الاجتماعي، فقد رفض تصور ماركس للمجتمع كوحدة متكاملة منسجمة تعيش حالة من الصراع الأبدي بين طبقاته، بل فضل الجهاز البوردياوي تقسيم المجتمع إلى حقول لها استقلالها النسبي ومنطقها الخاص بها بعيدا عن كل النزاعات المختزلة للوقائع والحقائق الاجتماعية " كالحقل السياسي، الحقل الاقتصادي، الحقل الثقافي ..."، ففي كتابه "أشياء مقولة" والذي نشره سنة 1987 يرى أن "العمل الذي أعده حول نظرية الحقول، والتي يمكن نعتها بتعدد العوالم، ستنجز بواسطة التأمل حول تعددية المنطق الذي يتوافق مع العوالم المختلفة، بمعنى الحقول كأماكن تشكل فيها الحس المشترك، أماكن مشتركة، أنساق نموذجية، لا يمكن اختزال بعضها في البعض الآخر".
إن هذا التقسيم يمكن عالم الاجتماع من دراسة المجال والتعرف عليه في جوهره كما هو، وذلك برصد مختلف معطياته وأوضاعه ومؤشراته، دون الوقوع في الأحكام العامة. أو بإيضاح أكثر الحقل عند بيير بورديو ليس مجرد تمثل ذاتي أو بناء نظري للعالم، بل على العكس له وجود واقعي مادي، تعكس صورته المؤسسات التي تعبر عنه وتحدد كيانه، لكن ليس بعيدا عن مجموعة من الفاعلين الاجتماعيين الذين يعتبرون بمثابة عملاء قبلوا استثمار ذواتهم وإمكاناتهم المادية والمعنوية داخل حقل معين، بل أكثر من ذلك سمحوا لأنفسهم أن يتعرضوا لشتى أنواع المنافسة والصراع لكن ليس بصورة مادية بل بصورة رمزية.
يتميز الحقل إذن بالخصائص التالية:
* كل حقل هو عبارة عن سيرورة تاريخية، فهو يمر بعدة مراحل طويلة وبطيئة، وصراعات متعددة، الهدف منها الحصول على الاستقلال الذاتي، ففي كتابه "أسباب عملية" ضرب المثل بيير بورديو بالحقل الأدبي الفرنسي الذي لم يكتمل بشكل عملي إلا في أواخر القرن التاسع عشر مع غوستاف فلوبير"1"، وذلك بفعل تعميم التعليم وتشجيع القراءة، كما ظهر كتاب متخصصين في ميدان الأدب " التيار الواقعي – التيار الرومانطيقي"، لا يملكون عملا يعيشون منه إلا من النشر والمكتبات التجارية...إلخ.
* كل حقل يحمل في ثناياه نمطين من الصراع، الأول داخلي بين عملائه وفاعليه الذين يتنافسون من أجل أخذ مراكز القوة والتعبير عن الحقل وتمثيله، واحتكار منافعه التي يجنيها، ومن جهة أخرى يخضع الحقل للصراع بين ممثليه القدماء أو كما يسميها بورديو "الأسماء المكرسة "والوافدين الجدد عليه . أما الثاني فهو صراع خارجي بين الحقل برمته أي ببنيته الكاملة وباقي الحقول المنافسة، ولكن في نظر بورديو لا يمكن الحديث عن هذا النوع من الصراع إلا إذا توفر حد أدنى من المصالح المشتركة بين مختلف العملاء الذين ينتمون إلى الحقل الواحد.
إن بنيوية بورديو حاضرة هنا، بل هي بنيوية تكوينية، فالحقل في كلمتين بنية مبنية Structure structuré أي بنية موضوعية مستقلة ومحايدة عن وعي وإرادة الأفراد وتمثلاتهم من جهة ومن جهة أخرى فالحقل يتكون تاريخيا عبر مسلسل استقلال طويل.
2- مفهوم الهابيتوس: في كتابه الحس العملي تطرق بيير بورديو إلى مفهوم الهابيتوس فعرفه على أنه نسق من الاستعدادات المستمرة والقابلة للتحويل والنقل، بنى مبنية مستعدة للاشتغال بصفتها مبادئ مولدة ومنظمة لممارسات وتمثلات". فالأبيتوس في دلالته وصيغته النهائية هو "المجتمع وقد استقل في الجسم عن طريق سيرورة التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والترويض، فالمجتمع هنا بكل قيمه وأخلاقياته، بكل محددات السلوك والتفكير والاختيار... إنه ذلك التاريخ الذي يسكن الأشخاص في صورة نظام قار للمؤهلات والمواقف".
الأبيتوس عند بيير بورديو دليل على قوى الأصل في الوسط الاجتماعي، وهي دعوة إلى التقريب بين الحتمية الاجتماعية من جهة والفردانية من جهة أخرى، إنه يسعى إلى كشف ماهو خارجي – داخلي، كشف المشترك في البحث عما هو فردي، فالبنيتين الداخلية والخارجية هما صورتين لحقيقة واحدة، للتاريخ المشترك، ذلك التاريخ المنقوش في الذات وفي الأشياء.
3- مفهوم الرأسمال: انتقد مرة أخرى الجهاز البوردياوي النظرة الماركسية للرأسمال التي حصرت هذا المفهوم في الجانب المادي، واعتبرت المجتمع ماهو إلا صراع مستمر بين الطبقات الاجتماعية في إطار مادي تاريخي، مع العلم أن المجتمع تتنافس فيه مجموعة من الرساميل، الكل يسعى إلى تحصيلها ومراكمتها واستثمارها في نفس الوقت، بعض هذه الرساميل يمكن أن تتحول إلى رأسمال رمزي، حتى يتم الاعتراف بها اجتماعيا، تصبح بذلك مصدرا لسلطة مشروعة فعالة في لحظات الصراع، هذه الأنواع هي بالإضافة إلى الرأسمال الرمزي، هناك الرأسمال الاجتماعي، الثقافي، ...
*- الرأسمال الثقافي: إنه مجموع المعارف والكفايات والمهارات من مختلف الأصناف النظرية والعملية في إطار ثقافة معينة، واستثماره في حقل اجتماعي معين ، يجلب لمالكه قيمة مضافة مادية أو رمزية أوهما معا.
*- الرأسمال الاجتماعي: هو مجموع الثروات الفعلية أو المفترضة التي يتوفر عليها فرد ما أو جماعة معينة بسبب امتلاكه لشبكة مستمرة من العلاقات، ومن المعارف والاعترافات المتبادلة الممأسسة تقريبا، أي مجموع الرساميل والسلطات التي تخول لشبكة ما إمكانية تداولها. ينبغي التسليم بأن الرساميل يمكن أن تتخذ أشكالا متعددة، إذا ما تطلب الأمر تفسير بنية وحركية المجتمعات المتمايزة.
4 - مفهوم العنف والسلطة الرمزيين:
لكي نفهم بشكل واضح استعمال هذين المفهومين عند بورديو لا بد من الوقوف أولا عند التصور الماركسي للعنف والسلطة، وهنا سنأخذ أحد النماذج الواضحة في علم الاجتماع الألماني والتي تعتبر محطة أساسية في قلب التنظير السياسي، إنه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر"2"، يذهب هذا الأخير في نفس تصور ماركس للعنف، فيعتبر أن العنف المادي –أو بتعبير بورديو العنف البوليسي- تربطه علاقة حميمية بالدولة فمنذ القديم اتخذت التجمعات السياسية المختلفة ... العنف المادي وسيلة عادية للسلطة. وعلى العكس من ذلك يجب أن نتصور الدولة المعاصرة كجماعة بشرية تطالب بحق احتكار استعمال العنف الفيزيائي المشروع لصالحها "ماكس- فيبر رجل العلم ورجل السياسة – بيروت – دار الحقيقة – 1982 ص 46.
إن هذا التصور لعلاقة العنف بالسلطة يظل قاصرا من وجهة نظر بيير بورديو، فالعنف الرمزي بدوره وسيلة لممارسة السلطة فهو " شكل من أشكال السلطة تمارس على فاعل إجتماعي بتواطؤ منه، وكيفما كان الحال فهذه الصياغة خطيرة، لا تفتح الباب أمام مناقشات مدرسية حول مسألة معرفة ما إذا كانت السلطة تأتي من أسفل وإذا ما كان المسود يرغب في الحالة المفروضة عليه "..." فإن أشدها "أشكال العنف " هو ذلك الذي يمارس في نظام الأشياء "- بيير بورديو- أسئلة علم الاجتماع ص25
إن العنف الرمزي حسب بيير بورديو هو عنف غير مرئي، لطيف ولين وعذب، يقوم على إلحاق الضرر بالآخرين عبر اللغة والتربية...، إلى جانب ذلك يذهب بيير بورديو في كتابه "إجابات" إلى انه "يمكن ان يحقق العنف الرمزي نتائج أحسن مما يحققه العنف السياسي البوليسي..." وهذا هو جوهر اختلاف بيير بورديو مع التيار الماركسي، وهنا يعود في نفس المؤلف السابق إلى التصريح على " أن احد اكبر مظاهر النقص في الماركسية هوانها لم تخل مكانا لمثل هذه الأشكال اللطيفة من العنف – أي العنف الرمزي – التي هي فاعلة ومؤثرة حتى في المجال الاقتصادي".
تتمتع إذن السلطة الرمزية بمجموعة من المميزات والخصائص:
- لها القدرة على تكوين المعطى عن طريق العبارات اللفظية.
- لها قدرة على الإقناع، وإعطاء تصور حول العالم أو تحويله، ومن ثم قدرة على تحويل التأثير في العالم وبالتالي - العالم نفسه.
- تعتبر بمثابة عصا سحرية تمكن من بلوغ ما يعادل قوة طبيعية أو اقتصادية، وذلك بفضل قدرتها على التعبئة.
السلطة الرمزية هي شكل من أشكال السلط الأخرى.
*- التلفزة كنموذج للعنف الرمزي: التلفزة هي ذلك الضيف الغريب الذي دخل بيوتنا ومجتمعنا، فلم يعد ضيفا بل جزءا لا يتجزأ من واقعنا الاجتماعي، بل أطلق عليه علماء الإجتماع "بالضيف الإجباري". إن العنف التلفزي يبدو واضحا من خلال سلسلة البرامج والفقرات التي يتناولها تباعا، فبورديو ينطلق في كتابه "في التلفزة" الذي نشره سنة 1996 من فكرة أساسية مفادها أن التلفزة أداة للقمع، وذلك راجع إلى الكم الهائل من الثقافات التي يعرضها هذا الجهاز والتي في أغلب الأحيان ما يميل الناس إلى تصديقها بهدف البحث عن نموذج لديموقراطية مباشرة. إن جهاز التلفاز بهذا المعنى البوردياوي ليس الوسيلة الناجعة لغذاء الفكر وإبداء الرأي، بل هي وسيلة لتصدير المعلومات كوجبات خفيفة وسريعة مقترنة بإيديولوجيات خفية.
يصرح بيير بورديو في كتابه "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول": "أحد المشاكل الكبرى التي يطرحها التلفزيون هي العلاقة بين التفكير والسرعة. هل يمكن التفكير أثناء اللهثات بسرعة؟ وهكذا حصل التلفزيون على مفكرين "على السريع"، عندما أعطى مجال الحديث لمفكرين أجبرهم على أن يفكروا بسرعة متزايدة. مفكرون يفكرون بأسرع من ظلهم."
*-المؤسسة التعليمية كصورة من صور العنف الرمزي
تنطلق المقاربة الإمبريقية للمؤسسات التعليمية في الجهاز المفاهيمي لبيير بورديو من مبدأ تكافؤ الفرص، فإذا كانت المؤسسة التعليمية كحقل يتمتع باستقلال نسبي له قوانينه الخاصة ، يستمد مادته الخام"التلاميذ" من المجتمع الذي ينتمي إليه بجميع مكوناته الثقافية، من عادات وتقاليد،أو بعبارة بورديو مجموع "الجينات المتوارثة"، فإنها تعمل على ترسيخ هذه المكونات عن طريق شحن التلميذ منذ طفولته بمجموعة من القيم التي لا تبتعد في مضمونها عن عادات وتقاليد المجتمع الذي تنتمي إليه بشكل غير ملموس ومرئي،لتعطينا مجتمعا "مربى" سيعمل في ما بعد بدوره على إمداد هذه المؤسسات بالمادة الخام وهكذا دواليك، وفي حال فشلت عملية التربية فإن المؤسسة تضطر لإعادة إنتاجه عبر مفعول ارتجاعي.
إلا أنها في نفس الوقت تعمل على تكريس التفاوتات الرمزية- المادية لدى الطبقات الاجتماعية، فإذا أخذنا مثال اللغة مثلا فإن التلميذ الذي يملك رأسمال مادي مرتفع تجده يختزن رصيدا معرفيا هاما مقارنة مع الفقير، وبذلك فالأسرة تستثمر الرأسمال المادي لتحوله إلى رأسمال ثقافي، فالأول تجده يتعامل بواسطة بروتوكول لغوي خاص به يعبر عن مستواه الثقافي، وبذلك تكون فرصة الغني أكثر بكثير مما لدى الفقير. إن عدم تكافؤ الفرص l’inégalité des chances هو قمع ذهني تقوم به المؤسسة بتواطؤ مع المجتمع دون أن نحس أو نشعر به.
5- مفهوم الإنعكاسية: الوسيلة الأولى التي يجب أن يتوفر عليها الباحث وهو يحاول القيام بتحقيقه حول الظاهرة الاجتماعية، تتمثل في ما يدعوه بورديو بالانعكاسية، أي أن يعكسا المحقق ذاته وهو يحاول تطبيق منهجه ومبادئه على عمله بنفسه. إلا أن دعوة بورديو تضيف شرطا أساسيا في عمل هذا المفهوم، هو ان تنطلق هذه الذات المنعكسة على ذاتها من الفعل، ورد الفعل يتأسس على الممارسة المهنية أو على تصور سوسيولوجي يفتح الباب أمام الاستحواذ والسيطرة على مختلف الحوارات.
إن الحياد المعرفي و الإبستمولوجي في الدراسات الوضعية - في نظر بورديو- بمثابة حلم، يحمل وراءه مفارقة بين علم يسعى إلى بناء نظريات علمية سوسيولوجية، عبر الانطلاق من فرضيات ومحاولة التأكد منها، وعلوم أخرى لا تبالي بهذه البناءات والنظريات.
أخيرا، يمكن الإشارة إلى أن بيير بورديو وضع نظرية تحاول إعادة النظر في الآليات التي تبناها علماء الاجتماع في فترة كان العالم يعيش فيها حالة مخاض عسيرة، فأمام الحروب الدامية، من جهة، والتقدم العلمي والتكنولوجي المطرد،من جهة أخرى، سيتبلور فكر جديد قائم على العقلنة والتي عرفها ماكس فيبر "اختيار أنسب الوسائل للوصول إلى أنسب الأهداف"، وهذا ما حاول تأكيده المهندس وعالم الاقتصاد والسوسيولوجي الإيطالي فيلفريدو باريتو "3"، حيث ذهب إلى أن مختلف سلوكات الأفراد داخل المجتمع ترتكز على العواطف والأحاسيس، في غياب التفكير العقلي كان يعتقد أن النخب السياسية تحافظ على سلطتها بالمناورات وأساليب الإكراه التي تخاطب العقل لا العاطفة.
----------------------------------------
انتقادات بورديو:
كانت أعمال بورديو ،موضوع العديد من التعليقات و كذلك قراءات نقدية ، و هي تهم تصوره للثقافة الشعبية و مفهوم العادة و عجز سوسيولوجياه عن تأمل التغيير . و في الواقع ،تتوفر كافة الانتقادات على نقطة مشتركة ، و هي تتجسد في كونها لا تنفي القيمة الاستكشافية لمفهوم العادة ،إلا أن أغلب الباحثين يرفضون أن يجعلوا منها برنامجا متشددا للسلوكات. إن العادة متواجدة ،لكن في مجتمعاتنا المنفتحة، يخضع الأفراد لإطارات اجتماعية متعددة ، و لا أحد منها يسجن الفاعلين داخل قفص حديدي . بالإضافة إلى هذا ، لا تمكن الرؤية الحتمية للهيمنة من لدن العادة أو العنف الرمزي ، من الإفادة عن سيرورات التغير و التحرر ، مثل تحرر المرأة أو الشباب المنحدر من أوساط مهمشة ، و الذين يجدون مخرجا لأوضاعهم ،أو تحرر الفئات المتعددة للمهيمن عليهم ، و الذين ينجحون بطريقة أو بأخرى (عن طريق الصراع أو الاستراتيجيات الفردية أو الانحراف). في التحرر بشكل جزئي من وضعية خضوعهم للهيمنة ، و لا يتم إخضاعهم برمتهم للبؤس المعنوي و الخنوع السلبي.
________________
-المعجم في أعلام التربية و العلوم الإنسانية . ذ. عبد الكريم غريب.
مقتطف من مقال أستاذ مادة الفلسفة – أزيلال- أفورار
- الهوامش:
1- غوستاف فلوبير: روائي فرنسي شهير ينتمي للمدرسة الواقعية ولد سنة 1821- وتوفي سنة 1880، أصدر مجموعة من الروايات، لكن الرواية التي حضيت باهتمام الأدباء والنقاد، هي رواية "مدام بوفاري" باعتبارها أول رواية مزجت بين اللمسة الواقعية والإحساس الرومنطيقي.
2- ماكس فيبر : عالم اجتماع ألماني من مؤسسي علم الاجتماع الحديث، ولد سنة 1864م – وتوفي سنة 1920 يعتبر مرجعا أساسيا في الإقتصاد والسياسة من أهم أعماله : "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية".
3- فيلفريدو باريتو "1848م-1923م" : عالم اقتصادي شهير ومنظر إداري، صاحب نظرية باريتو المعروفة في علم الإدارة، من بين أشهر مقولاته " التاريخ مقبرة الطبقات الأرستقراطية ".
- المراجع المعتمدة:
- عبد الكريم الموريد : بحث جامعي حول بيير بورديو وإعادة الإنتاج الاجتماعي
- الهم الاجتماعي- قراءة في كتاب بؤس العالم لبيير بورديو وآخرين : فخري صالح
- ماكس- فيبر رجل العلم ورجل السياسة – بيروت – دار الحقيقة – 1982
- بيير بورديو- الشك الجذري – مجلة الملتقى – العدد 9-10 السنة 2002
- نظرية العنف الرمزي عند بيير بورديو – أفكار مغربية - إبراهيم بلوح – د . العطري عبد الرحيم – 14ديسمبر2009
- بهجة المعرفة – موسوعة علمية مصورة – المجموعة الثانية – الطبعة الثانية – ج2 -
------------------------------------------------------------------------
#قام بتجميع و تركيب عناصر الموضوع . عبد الواحد المالكي.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

التطبيع مع المرفوض بين الوهم والحقيقة

  التطبيع مع المرفوض مقولة وهمية لا يمكن للشعوب التطبيع مع ما ترفضه مهما كانت قوة المرفوض ومهما كانت درجة ضعف الرافض... كثيرا ما يفسر السكوت...