https://www.facebook.com/nasr.sami.397/

vendredi 12 mars 2021

قراءة سوسيولوجية لازمة النخب التونسية

 دراسة سوسيولوجية لأزمة النخب التونسية


يقلم سامي نصر


   احتلت النخب مكانة متميزة في تاريخ الشعوب و الأمم، و ساهمت في العديد من المناسبات في احداث التغيرات الإجتماعية و الثقافية، بل عادة ما تكون النواة الأولى للنقلة النوعية التي عرفتها هاته المجتمعات الإنسانية...الشيء الذي أكسبها مكانة متميزة لدى السلط الحاكمة و القيادات السياسية مهما كانت درجة ديمقراطيتها أو دكتاتوريتها. كما تراوح موقع النخب بين المساندة و اضفاء الصبغةالشرعية للسلط الحاكمة و بين المعارضة و التهديد لها.و إذا ما قمنا بدراسة استقرائية لتاريخ البلاد التونسية فإننا سنلاحظ هذا التذبذب وهاته المراوحة  في صفوف النخب التونسية سواء أكانت نخبا سياسية أو نخبا ثقافية أو دينية...(مع أنه عمليا يصعب إيجاد حد فاصل بينهما)، فتارة نجد هذه النخب ضمن ما يسمى في علم النفس الإجتماعي بقوى التغيير و تارة نجدهم ضمن ما يسمى بقوى المحافظة. و نظرا لتشعب الموضوع و اتساعه فإننا سنحاول في هذا البحث التركيز على الصنف الأول من النخب أي تلك التي ألزمت نفسها بالمشاركة في مواجهة الموجود و الطوق إلى ملامسة المنشود. فالمشروع الإصلاحي التونسي بدأ منذ نهاية القرن الـ18 مع ثلة من النخب التونسية التي حاولت تسخير كل الإمكانيات المتاحة من أجل القضية الإصلاحية و القضية الوطنية...و رغم نجاحها و تحريكها للشعب التونسي في أكثرمن مناسبة إلآ أنها عرفت العديد من الأزمات أهمها: متانة الحاجز الفاصل بينها و بين بقية أفراد المجتمع التونسي، و هو نفس المشكل الذي تعاني منه النخب التونسية اليوم و التي سنحاول دراستها في هذا البحث.فماهي أهم تمظهرات أزمة النخب التونسية اليوم؟ و ماهي الأسباب الرئيسية الكامنة وراء هذا الحاجز الفاصل بينها و بين المجتمع التونسي؟ و إلى أي مدى يمكن أن تتحمل النخب مسؤولية بناء و تشييد هذا الحاجز؟


    -I- خصوصية المجتمع التونسي وأزمة النخب التونسية:


   لدراسة ظاهرة معينة من الضروري الأخذ بعين الإعتبار خصوصية الفضاءات المحيطة بتلك الظاهرة سواء أكانت فكرية أو سياسية أو إجتماعية أو... لأجل ذلك سنحاول الإعتماد في هذا الجزء الأول من البحث على أهم خصوصيات المجتمع التونسي، مع التأكيد على أن مقولة خصوصية لا نقصد بها طبيعية أو فطرية بل تلعب العديد من العوامل و الظروف المحيطية في خلق ونحت بعض السمات التي تميز مجتمعا عن آخر، ومن بين تلك الخصوصيات التي أصبحت تميز المجتمع التونسي:


    (1 ) الخوف المبالغ فيه: وإن كان الخوف ظاهرة إجتماعية و نفسية طبيعية عند كل الأفراد و المجتعات إنها تصبح ظاهرة إجتماعية"باتولوجية" (مرضية) في ثلاث حالات على الأقل:أولا، إذا تجاوزت حدودها الطبيعية، بمعنى أن يتحول كل شيء مهما كانت بساطته إلى مصدر خوف ورعب.وثانيا: إذا كان هذا الخوف مزمنا و لا يرتبط بفترات زمنية معينة أو ظروف نفسية و إجتماعية محددة. وثالثا: إذا استبطنته (الخوف) مجموعة معينة وتوسعت درجة إنتشاره إلى أن أصبحت تمس الجماعات و المجموعات.


    إذ يكفي وجود حالة واحدة من الحالات المذكورة ليجعل من الخوف حالة مرضية، و لكن ما يمكن ملاحظته في هذا الإطار هو تواجد كل هاته الحالات الثلاث و في نفس الوقت بين أفراد المجتمع التونسي. و فعلا، لعبت العديد من العوامل التاريخية والتربوية والعقائدية والسياسية في اخراج الخوف من مرحلته الطبيعية إلى المرحلة المرضية، فمثلا عملية ولادة نزعة الخوف تبدأ منذ مرحلة الطفولة من خلال تهويل الأشياء المخيفة، إذ كل عملية منع لابد أن ترافقها إحدى عبارات الخوف، و بالتوازي مع ذلك يتم خلق كائنات وهمية مخيفة تستغل لمنع الأطفال من الخروج من المنزل أو ترهيبهم من أشياء معينة مثل "الغول" و"شيطان القايلة" و "العبيثة" و... بل حتى التعليم الديني و العقائدي يبدأ بالتخويف مثلا:" إن تفعل هذا يأخذك الله من شوافر عينيك..." " الله يضعك في النار و يعذبك..."


    و هكذا تتفاعل كل هاته العوامل لتخلق الشخصية الخائفة من كل شيء ثم تنمو تلك الشخصية و تنمو معها الأشياء المخيفة و أخيرا يتم إختزالها في السلطة الحاكمة و يصبح كل ممثل للسلطة مهما كانت درجة رتبته محل تخويف إلى درجة أن أصبح الموظف في الأمن أي العون الأمني يسمى " الحاكم" (بكل ما تحمله هاته العبارة من معنى). هذه هي الخاصية الأولى للمجتمع التونسي الذي تحاول النخب التونسية تحريكه و التفاعل معه...


    (2 ) الريبة و الإحتياط من كل شيء- الإستنفار- :


 من أهم الدراسات التي تناولت هذا الموضوع هي دراسة الدكتور محمود الذوادي و التي إختار لها كعنوان "الشخصية التونسية المستنفرة" فرغم أنه لم يحاول التطرق إلى العوامل الإجتماعية و النفسية و السياسية التي أفرزت هاته الظاهرة إلآ أنها تعد من أبرز و أهم ما كتب في هذا المجال،( حيث ساعدته ملاحظاته السوسيولوجية و كثرة تنقله عبر مناطق مختلفة من العالم - العربية و غير العربية- من إدارك الفروق الأساسية و الخصوصيات المميزة للمجتع التونسي...) و من أهم مؤشرات الإستنفار لدى أفراد المجتمع التونسي هو إستحالة إجراء إتصال تواصلي مع شخص لا نعرفه دون إستعمال إحدى عبارات القرابة، فمثلا إذا أردت أن تسأل على مكان لا تعرفه و أردت أن تسأل فتاة عن المكان فعليك ان تبدأ إتصالك بإحدى العبارات التالية: أختي أو بنتي وإذا اردت أن تخاطب رجلا فعليك أن تبدأ إتصالك به بإحدى العبارات التالية: أخي أو إبني أو أبي... فعبارات القرابة في التخاطب اليومي أصبحت ضرورة إتصالية لا يمكن تجاوزها لإخراج الطرف الآخر من حالة الإستنفار مع ضرورة ملاحظة أن في المجتمعات الغربية مثلا لا يضطر الشخص إلى مثل هاته العبارات حين التحادث مع الشخص الغريب. ولهاته الخصوصية العديد من الدلالات النفسية و السيوسيولوجية فأول ما يمكن أن يوحي به الإستنفار و الريبة من الآخر هو غياب الإستقرار وانعدام الثقة فالمجتمع الذي يعيش أفراده أزمة ثقة يكون حتما في حالة ريبة و احتياط تجاه كل ماهو غريب...


  (3 ) التذمر:


    من الخصائص التي ميزت أيضا المجتمع التونسي هي خاصية التذمر، بل أصبحت أهم ميزة منتشرة في السنوات الأخيرة حتى صار الفرد لا يعرف ما يسعده و ما لا يسعده إذ نلاحظ التذمر من الطقس البارد ومن الطقس الحار، من إرتفاع الأسعار و من إنخفاضها في بعض الأحيان، التذمر من المعارضين للنظام و من المساندين له، التذمر من المحافظين و من المواكبين لكل تغيير... رغم أنه لا يمكننا تصنيف هذه الظاهرة ضمن الظواهر السلبية أو الإيجابية إلآ أنها تستبطن العديد من الدلالات و الأسباب الكامنة وراءها و التي يمكن أن نذكر في هاته المحاولة البحثية البعض منها.


   أولا، هناك علاقة متينة بين ظاهرة التذمر و الخوف المبالغ فيه أي الخاصية الأولى التي تحدثنا عنها، لأن الإنسان الخائف يغلب عليه عدم الإستقرار و التذبذب بحيث لا يستطيع أن يكون لنفسه موقفا واضحا، و يغلب عليه عدم الإتزان في ما يقوله و ما يصرح به... فيمكن أن نعتبر و لو مؤقتا أن التذمر إحدى أهم إفرازات الخوف.


   ثانيا: للتذمر علاقة بالخاصية الثانية أي الإستنفار وأزمة الثقة التي سبق الحديث عنهما...


   ثالثا: يمثل التذمر إحدى المؤشرات الدالة على نزعة الرفض المسيطر على أفراد المجتمع والمصحوب بغياب النموذج الأمثل لما هو أفضلن فمن تمتلكه الروح الرافضة و لا يحمل أي نموذج بديل لما هو موجود يغلب عليه التذمر والتضارب بين مصادر التذمر نفسها...


  (4) هيمنة الروح الانهزامية:


  تتجسد الروح الانهزامية في غياب الثقة بالنفس والثقة بالآخرين، و الإعتقاد بعدم وجود أي طرف قادر على تغيير الوضع الحالي، و تتظافر العديد من العوامل الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية في نحت أهم ملامح الشخصية الانهزامية. فالإنسان لا يولد حاملا للطابع الانهزامي، كما أن هذا الطابع لا يندرج ضمن الموروثات البيولوجية أو الجينية التي يمكن أن يتوارثها الأبناء عن الآباء، والأجيال الحاضرة عن الأجيال السابقة – و إن كان لسلوك الآباء دورا في ذلك ولكن لا يمكن أن نقحمه ضمن الموروثات- و إنما تخلقه جملة من العوامل والظروف المحيطية، كالتدهور الإقتصادي و انتشار أزمة البطالة و تفشي الممارسات الانحرافية و الاجرامية نظرا لانسداد آفاق العيش الكريم، و عدم التوافق بين القدرة الشرائية للمواطن التونسي و هيمنة النمط الإستهلاكي الذي أصبح يروج له و تسخر له كل وسائل الاعلام و الإشهار ... إضافة إلى مركزية السلطة و عدم تشريك المواطن في أخذ القرارات المصيرية الهامة التي من شأنها أن تحدد مصير البلاد التونسية و غير ذلك من العوامل التي من شأنها أن تساهم في خلق الشخصية الانهزامية...


   و هكذا لعبت الخصائص الأربع المذكورة دورا أساسيا في أزمة النخب التونسية و في خلق الحواجز المادية و المعنوية بينها و بين بقية أفراد المجتمع، و لكن جذور الأزمة وانعدام السبل القادرة على تحريك و تفعيل المجتمع لا تتوقف على الخصوصيات المجتمع التونسي، بل للنخب دورا في ذلك.


     -II- خصائص النخب التونسية:


   كثيرا ما تكون أولى بوادر التغيير الاجتماعي نابعة من النخب نظرا لتميزها عن بقية أفراد المجتمع و لامتلاكها لأهم الوسائل و الامكانيات التي من شأنها أن تساعدها على تجواز العراقيل الحائلة دون احداث التغير الاجتماعي سواء أكانت من طرف السلط أو القوى المحافظة الأخرى و التي يتوقف وجودها في المحافظة على الأوضاع الراهنة... و فعلا، شهدت العديد من الأحداث التاريخية الدور الفعال التي قامت به النخب التونسية أثناء نضالات الحركة الوطنية أو محاولات تفعيل المجتمع المدني في السنوات القليلة الماضية... و لكنها لازالت تشكو العديد من العراقيل و التعثرات، رغم توفر كل الظروف الداخلية و الخارجية التي من شأنها-نظريا على الأقل- تحريك أفراد المجتمع مثل البطالـة التي تجاوزت الـ19% حسب الأرقام الرسمية ( عدد حاملي الشائد العليا المعطلين عن العمل يتراوح عددهم بين  الـ 50-45 و ألف)... و الاستفزاز الصهيوني للمشاعر العربية والاسلامية، و الحرب النفسية التي تشنها الولايات المتحدة و بريطانية على العراق و العالم العربي الإسلامي، و حالة التعاطف و الهيجان التي بدأت تشهده العديد من المناطق بالبلاد التونسية... فرغم كل تلك التراكمات و المثيرات الداخلية والخارجية، و رغم الجرأة التي تحلت بها بعض النخب التونسية سواء عبر الكتابات أو الفضائيات، أو حتى أثناء العديد من التظاهرات، إلآ أنها لم تتمكن من تحريك سواكن أفراد المجتمع، و هذا العجز هو الذي جعلنا نلمس بعض أوجه أزمة النخب التونسية و التي تحديدها في الآتي:


   -1- العزلة المعنوية: و نقصد بها تلك الحركة الدائرية التي تدور في فلكها جل النخب التونسية، و القوى الفاعلة في المجتمع المدني، سواء أكانت ضمن الأحزاب المعارضة أو المنظمات الغير الحكومية، فإنها رغم تاريخها النضالي و الجرأة التي تحلت بها في بعض المناسبات، واستقلاليتها المادية و الفكرية إلآ أنها ظلت تدور حول نفسها فنفس الوجوه تقريبا هي التي نجدها في كل التظاهرات الثقافية و السياسية المتعلقة بنشاطات المجتمع المدني. و هكذا الإتصال و التواصل لا يكاد يخرج عن هاته الدائرة النخبوية، لأجل ذلك يمكن إعتبار هذه العزلة المعنوية أهم ما تعاني منه النخب اليوم...


  -2- خاصية تعدد الإنتماءات: ما يميز أيضا النخب التونسية الفاعلة في تحركات المجتمع المدني هو تعدد الإنتماءات التنظيمية للشخص الواحد و التي تصل عند بعضهم الـ4 أو الـ5 إنتماءات ( أحزاب معارضة، منظمات غير حكومية...). و رغم البعد الإيجابي لهاته الظاهرة كخلق و تسهيل إمكانيات التنسيق و التواصل بين القوى الفاعلة عبر تكوين تحالفات موازية للسلطة الحاكمة التي إحتكرت كل المجالات المؤسساتية، كما لاننسى الدور الذي لعبته ظاهرة تعدد الإنتماءات في معرفة الآخر و تجاوز ما يسمى التحجر و التجمد الإيديولوجي، فتح أبواب ما يسمى بعصر "مابعد الإيديولوجيا"... رغم كل ذلك تعد ظاهرة تعدد الإنتماءات إحدى الخصائص المتسببة في أزمة النخب التونسية، و توسيع الهوة بينها و بين بقية أفراد المجتمع، بل أكثر من ذلك أصبح هاجس الوقت و إمكانية خلق وقت فراغ أصعب من المواجهات التي تلاقيها أثناء نشاطاتها و تحركاتها، فلكل إنتماء تنظيمي جملة من الإلتزامات و الأنشطة المتعلقة به و طبعا يكون على حساب الحياة الإجتماعية و الطبيعية، وهذا بدوره ينمي و يغذي الخاصية العزلة المعنوية التي سبق و أن تحدثنا عنها...


   -3- الإستقلالية المادية و إشكالية الإنتماء الطبقي: إن الدراسة الإستقرائية للنخب التونسية في فترة نشاط الحركة الوطنية و بناء الدولة الوطنية تؤكد الدور الذي لعبته العائلات الميسورة في خلق النخب التونسية، إذ جلهم كانت تنتمي إلى الشرائح الإجتماعية المحظوظة الشيء الذي مكنها من الدراسة و الحصول على الشهائد العلمية العليا في زمن خيم فيه الفقر و الخصاصة على كل أفراد المجتمع نتيجة النهب الإستعماري وافتكاك العديد من الأراضي الفلاحية من أصحابها و... و رغم العديد من المشاريع التنموية التي قامت بها الحكومة الوطنية و محاولة التقليص من الهوة بين الأفراد و الجهات و التركيز على مجانية التعليم و المراهنة عليه ظلت النخب متميزة بإمكانياتها المادية و حظوظها المتعددة و المتنوعة عن بقية أفراد المجتمع. و أكثر من ذلك تم تقسيم الفضاءات العامة حسب هاته الإنتماءات، بمعنى آخر أصبح لكل شريحة إجتماعية فضاءا خاصا تتحرك فيه سواء أكان في شكل نوادي أو مقاهي أو دكاكين ... أما النخب التونسية اليوم فإنها تحولت إلى خليط من الشرئح الإجتماعية المتباينة و لكنها بقي العديد منها محظوظا مقارنة ببقية أفراد المجتمع، ( فالعديد من المواطنين لا يتسنى لهم عمليا أن يكون من ضمن النخب، فالشهائد العلمية العليا لم تعد عقبة أمام المواطنين فكل سنة تتخرج أفواجا من الطلبة المتحصلين عليها، و لكن أزمة البطالة و استحالة الحصول على عمل بالنسبة لبعض الأشخاص و عدم استثمار هاته الشهائد حال دون صعودهم إلى درجة النخب...) فإذا كان جزء من النخب تمكن من توظيف و استثمار الشهائد العلمية التي تحصلت عليها فإن هاته الأفواج المتخرجة كل سنة لم يتسن لها سواء الوقوف في طابور الإنتظار و... و في نفس الوقت نجد من بين النخب التونسية جزء لا ينتمي إلى الشرائح الإجتماعية المحظوظة إما لأنها كانت تنمو في عائلات فقيرة أو لأن السلطة تمكنت من توظيف سلطتها لغلق كل السبل أمامها ... و لكن مهما كان الأمر ظلت بقية أفراد المجتمع تنظر إلى النخب على أنها " طبقة " محظوظة تتمتع باستقلالية مادية خولت لها الوقوف في وجه السلطة و مكنتها من تجاوز كل التحديات و الصعوبات الأخرى. و هكذا مثلت فكرة الإستقلالية المادية إحدى العوامل المتسببة في خلق الحاجز الفاصل بينها و بين بقية أفراد المجتمع الذين اتخذوا لأنفسهم موقع المتفرج لا المساهم أو المساند إذ لا نراه يساند السلطة القائمة رغم تعدد مشارعها و توجهاتها و رغم العديد من المحاولات لكسبها، و في نفس الوقت لا نكاد نلمس تأثيرا للنخب عليها لا من خلال وسائل الإعلام و لا من خلال القنوات الأخرى... أولا لأنها لا ترى نفسها تتمتع بالإستقلالية المادية شأنها شأن النخب، و ثانيا، لانعدام الثقة في أي طرف مهما كانت أهدافه ( المحافظة أو التغيير) وثالثا، لدور الوهم الذي لم يتحرر منه أفراد المجتمع التونسي الذي أصبح يعيش في الوهم و بالوهم ( و سوف نحاول تناول ظاهرة الوهم و دوره في حياة المجتمعات و الشعوب في المحاور اللاحقة) كما أن النخب عجزت عن إخراج المجتمع من دائرة الحياة الوهمية... الشيء الذي جعل البلاد تعيش حالة شبه استثنائية. فداخل كل مجتمع نجد قوتين متعارضتين: قوى التغيير و قوى المحافظة، أو قوى ترغب في تغيير النظام و قوى ترغب في التغيير داخل النظام، فرغم تلازم وجود هاته الثنائيات في أغلب المجتمعات البشرية، إلآ أننا في تونس تتلاشى هاته الثنائيات لتعوضها ثلاث قوى: قوى التغيير ، و قوى المحافظة، و القوى الشعبية المتفرجة على حلبة الصراع...


   -4- عدم التجانس بين إرادة النخب و إرادة الشعب:  تعتبر مسألة الإرادة من أهم و أبرز المسائل التي من خلالها يمكن تشخيص الوجه الآخر من أزمة النخب التونسية و أزمة المجتمع التونسي، فعملية خلق الإرادة تتطلب على الأقل تواجد 3 شروط أساسية:


     أولا: الإحساس: من المعلوم أن الإحساس هو الذي يولد الإرادة، فعندما يحس الإنسان مثلا بالعطش تتولد عنده إرادة شرب الماء، و عندما يحس بالتعب تتولد عنده إرادة حب الإستراحة، و أيضا عندما يحس بالظلم تتولد عنده إرادة إزالة هذا الظلم و... فالخطوة الأولى و الأساسية لخلق الإرادة هي الإحساس أو ما كان يسمى في الأدبيات السياسية بالعملية التحسيسية، و التي نكاد نلراها غائبة في العديد من ممارسات النخب التونسية. و هاته العملية لا يجب أن تتوقف على كتابة المقالات أو مجرد إلقاء الخطب و المداخلات في الملتقيات و الإجتماعات بل يجب أن تتركز على العيش الطبيعي مع أفراد المجتمع  لأن الإرادة الثابتة هي التي تكون عبر التواصل لا عبر الاتصال ...كما أن مجرد التحسيس وحده لا يمكن أن يخرج المجتمع و النخب التونسية من المعضلة التي تعيش فيها لأننا نلاحظ وجود ثلاثة أنواع من ألإحساس:


-       الإحساس المتبلد


-       الإحساس المنطقي


-       الإحساس المرهف


و لأجل الإرتقاء بأفراد المجتمع في سلم الإحساس يتطلب ذلك العيش الطبيعي أي خلق مجالات حية للتواصل الطبيعي.


   ثانيا: ثبات الإرادة و استمرارها:يتمثل الشرط الثاني في عملية خلق الارادة الفعالة  المثمرة هو أن تكون هاته الإرادة التي ولدها الإحساس ثابتة مستمرة، إذ كثيرا ما يتكون لدى الانسان إحساس بمرارة الوضع الإقتصادي أو الإجتماعي أو السياسي أو... الذي يعيش فيه أو بخطورة المرحلة التي يمر بها إثر قرائته لبعض المقالات أو الدراسات أو الإستماع إلى احدى الخطب أو المداخلات المؤثرة، لكن سرعان ما تنطفىء إرادته و تضمحل مع إنتهاء مفعول ذلك المؤثر ... و لكي تكون ثابتة و مستمرة تحتاج إلى نوع من القوة أو الشحنة  تختلف نوعيتها بحسب نوعية الإرادة المنشودة، و لا تخرج هاته القوى عن : القوى المادية و القوى الروحية و القوى المعنوية...


  ثالثا: التوازن بين الطموحات و القدرات: لكي تكون الإرادة ثابتة و فاعلة تحتاج لإضافة إلى الإحساس و القوى التي تحافظ على ثباتها و رسوخها تحتاج أيضا إلى نوع من التوازن بين القدرات و الإمكانيات من جهة و بين الطموحات و التطلعات من جهة أخرى. فإذا كانت الطموحات أكبر من القدرات يصاب المرء بالإحباط و الفشل و إذا كانت القدرات أكبر من الطموحات نتج عنه التهور و عدم إستثمار الطاقات و المواهب ...


    و ما تجدر ملاحظته حين نقارن شروط الإرادة الثابتة و واقع النخب التونسية نلاحظ العديد من الإخلالات التي تبدأ بغياب و عدم الإهتمام بالعملية التحسيسية و ذلك لابتعادها عن الحياة الطبيعية مع بقية أفراد المجتمع، إضافة إلى اقتصارها على التأثير على الرأي العام من خلال الخطب أو الكتابات دون المحافظة على ذلك الشعور الذي أنتجه خطابهم أو كتاباتهم، ثم لا ننسى مسألة التوازن بين الطموحات التي نادرا ما نراها تتوازن مع القدرات و الإمكانيات... لأجل ذلك تحدثنا عن أزمة النخب التونسية


  ( في نطاق دراسة أزمة النخب التونسية قمنا بالعديد من المقابلات مع ثلة من النخب لتناول بعض الجوانب من الأزمة أو بالأحرى، و قبل ذلك هل تعترف النخب أصلا بإشكالية الأزمة و كيف تشخصها....)

Sami Nasr sociologue 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

التطبيع مع المرفوض بين الوهم والحقيقة

  التطبيع مع المرفوض مقولة وهمية لا يمكن للشعوب التطبيع مع ما ترفضه مهما كانت قوة المرفوض ومهما كانت درجة ضعف الرافض... كثيرا ما يفسر السكوت...