مشاركتنا في ملف حول ظاهرة التشاؤم بجريدة الصحافة
تحقيقي الصادر اليوم بجريدة الصحافة اليوم
آثار مدمّرة.. على الفرد والمجتمع
التّشاؤم يغزو قلوب التّونسيين؟!
إعداد: صبرة الطرابلسي
بيّن البارومتر السياسي لشهر سبتمبر 2017 ارتفاع نسبة التشاؤم لدى التونسيين بنسبة بلغت 73.7 بالمائة لتشهد أعلى مستوياتها هذه السنة بعد أن عرفت تحسنا ملحوظا خلال شهر جويلية الماضي بنسبة 52.1 بالمائة حيث بين استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة "سيغما كونساي" أن تراجع نسبة التشاؤم لشهر جويلية2017 يعود إلى الحملة التي شنتها الحكومة على بعض بارونات الفساد والتهريب لكن يبدو أن عموم التونسيين لم يلاحظوا استمرارا في هذا التوجه الحكومي إلى جانب عدم تسجيل أي تغيير في ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن يدفع إلى التفاؤل خصوصا في ظل غلاء المعيشة وتفاقم مؤشرات البطالة وضبابية الوضع السياسي الأمر الذي أدى إلى ارتفاع منسوب التشاؤم لدى التونسيين .
ولئن أظهر البارومتر السياسي تفاوتا في نسبة التشاؤم بين الجهات و الفئات الاجتماعية إلا أن ارتفاع هذا المؤشر يعكس تأزم الحالة النفسية لفئة هامة من التونسيين بما قد يشهد تفاقما إن تواصل الوضع على ما هو عليه. إذ تؤكد أحدث الدراسات أن 8.2بالمائة من التونسيين يعانون من الاكتئاب مدى الحياة وأن 35 بالمائة من المقبلين على العيادات بمراكز الصحة الأساسية مصابون بهذا المرض النفسي ولعل ارتفاع معدلات الانتحار في تونس منذ الثورة يعكس بدوره حالة اليأس والإحباط التي ضربت جزءا من التونسيين خاصة اولئك الذين ينتمون إلى الجهات الفقيرة والأخطر من ذلك أن لعنة اليأس والإحباط شملت الأطفال حيث ارتفعت نسبة الاطفال المنتحرين إلى 54 بالمائة خلال السنتين الأخيرتين .
فماهي الأسباب التي جعلت منسوب التشاؤم يرتفع لدى التونسيين ليزج بجزء منهم في متاهات الاكتئاب؟
وأي حلول يمكن ان تخفف من حدة هذه الظاهرة ؟
حاولنا من خلال هذا التحقيق البحث عن إجابات لهذه الأسئلة وغيرها
التشنج والعبوس وردود الأفعال العنيفة هي تقريبا أبرز ملامح جزء من المواطنين التونسيين اليوم التي يمكن أن تقرأها على وجوههم أو عبر سلوكهم وهو نتاج خضوعهم لواقع يسوده غلاء المعيشة وتزايد المتطلبات إلى جانب الوضع السياسي غير المستقر والصراعات وحرب المصالح التي لا تأبه لمعاناة المواطن اليومية وهي عوامل ساهمت في ترفيع منسوب التشاؤم لدى التونسيين التي بيّنها اخر استطلاع رأي قامت به مؤسسة «سيغما كونساي» لشهر سبتمبر الجاري والذي يعكس إشكالا حقيقيا أصبح المجتمع التونسي يعاني منه حيث مثل الوضع السياسي والاقتصادي للبلاد أحد أبرز الأسباب التي أدت الى ذلك وبين استطلاع الرأي ذاته حسب التحليل السوسيولوجي الذي قامت به أن التشاؤم كما التفاؤل لا يرتبطان فقط بالظروف الاجتماعية و الاقتصادية للأشخاص فحسب بل يتعلق كذلك بتصورهم لهذه الظروف وبمدى مراهنتهم من عدمها على المستقبل المنظور فأحيانا تفوق نسبة التشاؤم المعدل الوطني عند الفئات المحظوظة كما تختلف ردود أفعال مختلف جهات الجمهورية والفئات العمرية والمستويات التعليمية إزاء وضعيات اجتماعية مشابهة فقد بين البارومتر السياسي لشهر سبتمبر أن جهة الجنوب الغربي وتحديدا ولايات قبلي وتوزر وقفصة كانت الجهة الاكثر تشاؤما بنسبة 82.2 بالمائة ويعود ذلك جزئيا إلى حالة الاحتقان الكبيرة التي شهدتها عدة مناطق في هذه الجهات خلال الأشهر الماضية في علاقة بالإعتصامات المطالبة بالتشغيل بالمؤسسات البترولية. في المقابل سجلت ولايات الوسط الشرقي نسبا متقاربة مع ولايات الشمال الغربي والجنوب الشرقي بنحو 71 بالمائة.
وقد مثلت الطبقة الوسطى السفلى المتكونة من صغار التجار والأجراء الفئة الأكثر تشاؤما ب76.7 بالمائة وقد يعود ذلك الى خوفهم من تردي قدرتهم الشرائية وبالتالي التخوف من تراجع وضعهم الاجتماعي في المقابل يبين البارومتر السياسي لشهر سبتمبر أن الطبقة المرفهة هي الاقل تشاؤما نسبيا حيث بلغت 69.3 بالمائة وهو ما يعكس تفاوت منسوب التشاؤم بين الطبقات الاجتماعية ومساهمة العامل المادي في ذلك إلى جانب عامل السن والمستوى التعليمي حيث نجد ان فئة الشباب المتراوحة أعمارهم بين 18 و30 سنة هي الأكثر تشاؤما بنسبة تجاوزت 82 بالمائة.
انطباع
إن التشاؤم هو حالة انطباعية متحولة تتغير بتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي ليست خاصية قارة وهذا مايفسر عدم استقرار محرار التشاؤم لدى التونسي الذي تحركه الظروف العامة للبلاد وخاصة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية .
هذا ما أكده الأخصائي النفسي محمد سندي موضحا أنه يجب التمييز بين التشاؤم باعتباره حالة فردية مرتبطة بطبع الشخص وبين التشاؤم الجماعي الذي يتحول إلى ظاهرة مجتمعية إذا تجاوزت نسبة انتشاره في المجتمع 50 بالمائة وهو مؤشر خطير يبين أنها ظاهرة تشمل عدة فئات اجتماعية. وأضاف محدثنا أن أسباب ظاهرة التشاؤم هي عرضية مرتبطة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والضغوطات الناجمة عنهما فكلما ازدادت الضغوطات كلما ارتفع منسوب التشاؤم وكلما تحسنت المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية كلما تزايد الأمل في المستقبل وهذا في حد ذاته مؤشرا إيجابيا باعتبار أن البارومتر السياسي اظهر عدم استقرار حالة التشاؤم لدى التونسيين بل هي حالة عرضية ولم تصل إلى المستوى الخطير أو ما يسمى بالعدمية مشيرا إلى أن طغيان الجانب المادي على واقعنا من ابرز الأسباب المحركة لبوصلة التشاؤم في المجتمع والمساهمة في توتر العلاقات داخله والتي تدفع بالبعض إلى حد الإصابة ببعض الامراض النفسية على غرار الاضطرابات النفسية والاكتئاب ولعل ذلك ما يفسر ارتفاع حالات الانتحار بعد الثورة وارتفاع نسبة الإدمان على المخدرات والكحول إلى جانب تزايد حالات الطلاق والمشاكل الزوجية لذلك يجب على التونسي أن يغير تصوره للحياة وأن لا يربطها بالجانب المادي أو أن يحمل نفسه ما لا طاقة له به وبالتالي عليه أن يكون متصالحا مع ذاته بصفة خاصة ومع واقعه بصفة عامة .
صراعات سياسية
حالة التشاؤم التي سادت المجتمع التونسي بعد الثورة جاءت نتيجة ولوج ثقافات جديدة وغريبة عن المجتمع التونسي وهي ثقافة اليأس والالم والإحباط التي غذتها صراعات الطبقة السياسية وضرب الخصوم السياسيين بأسلوب القدح في قدراتهم وإبراز فشلهم وهو ما ولد حالة من الإحباط و التشاؤم لدى المجتمع التونسي.
هذا ما بينه المختص في علم الاجتماع الأستاذ سامي نصر مضيفا أن بناء الدولة لا يتم بإظهار الفشل وبالتركيز الإعلامي على هذا الجانب السوداوي الذي يمرر رسائل سلبية للمجتمع ويساهم في نشر الإحباط في صفوفهم وما ارتفاع مؤشر تشاؤم التونسي سوى دليل على حالة الأزمة التي يعيشها مجتمعنا على عديد الاصعدة.
وأشار محدثنا في الإطار ذاته أنه يجب التمييز بين مسألتين هامتين وهي إدارة الازمة وأزمة الإدارة إذ نلاحظ أنه بعد الثورة قد تمت شيطنة كل ما له علاقة بالإدارة التونسية وكأن الفساد أو التراخي في العمل أصبح مرتبطا بها موضحا أن إدارة الأزمة تقوم على التفكير في سبل معالجة الازمة و إيجاد الحلول الملائمة لها أما أزمة الإدارة فتتمثل في خلق أزمة سياسية أو عقائدية دينية ليتم توظيفها سياسيا لخدمة أجندات معينة ومصالح حزبية ضيقة ليكون المواطن ضحية هذه الصراعات.
وبين الاستاذ سامي نصر أن عالم الاجتماع «دوركهايم » أكد أن المجتمعات التي تشهد ثورات هي الأكثر تسجيلا لحالات الانتحار أو محاولات الانتحار وهذا يعكس حالة الازمة التي تعيشها هذه المجتمعات بعد التغيرات التي تطرأ عليها وصعوبة الاندماج الاجتماعي مع هذه المتغيرات وهو ما يؤدي إلى وقوع أزمة اجتماعية و اقتصادية وما حصل في تونس أن الطبقة السياسية لم تسع إلى مصارحة التونسيين بهذا الواقع الجديد بل قامت بإغراقهم بالوعود التي لم تتحقق وهو ما أدى إلى اصطدامهم بالواقع والوصول إلى حالة من التشاؤم والإحباط. وأكد محدثنا أن الإشكال يكمن في عدم تهيئة المجتمع التونسي للتأقلم مع فترة ما بعد الثورة والوعي بأن ثمار الثورة عادة ما تجنيها الاجيال القادمة في حين ان ما وقع هو زرع ثقافة المطالب الحينية وهو ما أفضى إلى الازمة التي يعيشها المجتمع التونسي اليوم على جميع المستويات لذلك الاشتغال على بث رسائل إيجابية يبقى ضروريا من خلال صياغة استراتيجية لإعادة الأمل للشعب التونسي ورسم سياسة اتصالية تعمل على بث المؤشرات الإيجابية اذ يجب أن تعمل مختلف مؤسسات الدولة على تطوير الخطاب الاتصالي.
حالات إكتئاب
الفترة الانتقالية التي عاشها التونسيون وما صاحبها من مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية كان لها الأثر السيئ على نفسيتهم وهو ما تؤكده الأرقام الاخيرة التي تبين تزايد عدد حالات القلق النفسي والاكتئاب التي لم تشف لدى التونسي والتي تجاوزت نسبتها 8 بالمائة من المجتمع التونسي.
هذا ما أكده الأستاذ وحيد المالكي رئيس قسم بمستشفى الرازي ورئيس اللجنة التقنية للنهوض بالصحة النفسية مبينا أن الاكتئاب هو مرض نفسي يحتاج إلى علاج وإلى استشارة طبيب نفسي وبالتالي يجب تجاوز تلك الوصمة الاجتماعية التي تعتبر الأمراض النفسية أمرا منبوذا يجب إخفائه بل يجب التعامل معه مثل أي مرض عضوي ذلك ان الأدوية التي تعالج هذا المرض موجودة وعلى عكس ما يعتقده البعض ليست لها انعكاسات سلبية ذات علاقة بالإدمان لأن عدم معالجة الاكتئاب يمكن أن يؤدي إلى أمراض عضوية أو أن يدفع بالمريض إلى الانتحار مبينا أن من علامات الاكتئاب الأرق وعدم الرغبة في الأكل والشعور بالخمول الجسدي .
وأضاف المالكي أن تدهور الحالة النفسية للتونسي نتيجة الوضعية الصعبة التي تمر بها البلاد يحتاج إلى تدخل عديد الاطراف لمعالجتها وليس فقط الطرف الصحي الذي يضطلع بالدور العلاجي إذ يجب العمل على تخفيض منسوب الرسائل السلبية والمحبطة للعزائم وهنا يبرز الدور الهام والمحوري للإعلام لأن الحديث المستمر عن كل ما هو سلبي من شأنه أن يؤثر على نفسية الأشخاص ويزج بهم في بوتقة التشاؤم وفي مراحل متقدمة وبمساهمة عوامل اخرى تتعلق بشخصية الفرد والظروف المحيطة به يمكن أن يصاب بالاكتئاب الذي لا يجب الاستهانة به ويجب معالجته وعدم التحرج من استشارة الطبيب النفسي.
وبين محدثنا أن معالجة الاكتئاب الذي أصبح ظاهرة مرضية عالمية يحتاج إلى القيام بالتقصي عن أسبابه وحاليا يجري الإعداد لإنجاز دراسة وطنية للتقصي حول مرض الاكتئاب لان اغلب الدراسات التي تم إنجازها في هذا الصدد هي دراسات جزئية في أوساط معينة على غرار الدراسة المتعلقة بوجود الاكتئاب في الوسط المدرسي ولم يتم إلى الان إنجاز دراسة وطنية تشخص مدى انتشار هذا المرض في بلادنا حتر نتمكن على ضوء النتائج التي ستفرزها هذه الدراسة من إيجاد الحلول الملائمة.
وبين المالكي أن الإستراتيجية الوطنية للوقاية من الضغوطات النفسية تحتاج إلى تكوين الاخصائيين النفسانيين وتوفير الأدوية والإمكانيات الملائمة للإحاطة بالمرضى ومعالجتهم الى جانب أهمية الجانب التحسيسي الذي يعد من أبرز المحاور التي تقوم عليها هذه الاستراتيجية علما أنه تم تنظيم عديد التظاهرات بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية للتحسيس والتوعية بضرورة معالجة مرض الاكتئاب وعدم الاستهانة به وسيكون هذا المرض محور الاحتفال باليوم العالمي للصحة النفسية في شهر اكتوبر المقبل والذي أصبح ظاهرة عالمية وليس حكرا على تونس.
جودة الحياة
تفاقم ظاهرة التشاؤم لدى التونسي خاصة بعد الثورة وهذا ما نلاحظه حتى عبر مواقع التواصل الاجتماعي انعكست سلبا على نفسية التونسي وعلى سلوكه وحتى علاقاته الاجتماعية حيث أصبح يميل إلى العنف اللفظي والمادي وللأسف لم تع الدولة أهمية العناية بالجانب النفسي والعمل على النهوض بجودة حياة التونسي.
هذا ما أوضحه السيد نوفل اليوسفي رئيس الجمعية التونسية لجودة الحياة مضيفا أن الهدف الأساسي من إنشاء هذه الجمعية هو نشر ثقافة الحياة والنهوض بجودة حياة المواطن حيث بادرت الجمعية منذ فترة بتقديم مقترح للرئاسات الثلاث يتمثل في إحداث وزارة للسعادة وجودة الحياة نظرا لحاجة المواطن اليوم إلى النهوض بهذا الجانب وتنمية فكره مبينا ان السلطة ثمنت هذا المقترح إلا أنها ترى أنه لا يمثل أولوية بالنسبة إليها نظرا لوجود ملفات أكثر أهمية علما أن هذا المقترح كان له صدى إعلامي جيد .
وأضاف محدثنا أن الجمعية التونسية لجودة الحياة تسعى عبر أنشطتها وبإمكانياتها الذاتية إلى تحفيز التونسي على التفكير الإيجابي على غرار تنظيم دورات تكوينية في التنمية البشرية وتنظيم مسابقة لأفضل تغريدة تبث خطابا إيجابيا على مواقع التواصل الاجتماعي وقد أسندت الجمعية شهادة شكر للفائز إلى جانب تنظيم أنشطة توعوية حول التربية الذكية للأطفال وكيفية تنمية سلوك الطفل عبر بعض السلوكيات البسيطة مثل المطالعة . وتجدر الإشارة أن الجمعية التونسية لجودة الحياة التي تأسست منذ أكثر من سنة بمنطقة بئر الحفي من ولاية سيدي بوزيد قد قامت بإحداث فرع لها في منطقة الكريب من ولاية سليانة وهي بصدد تكوين علاقات شراكة دولية مع منظمات وجمعيات إقليمية على غرار منظمة قصر الثقافة لحقوق الإنسان بالعراق.
ولئن تعكس الارقام والإحصائيات تزايد منسوب التشاؤم لدى التونسيين الذي انعكس سلبا على سلوك جزء منهم بارتفاع نسبة الجريمة والعنف والانتحار وحالات الاكتئاب فإن الاشتغال على الإحاطة النفسية للتونسي خاصة من خلال تغيبر نوعية الخطاب الموجه لهم وشحذه برسائل إيجابية من شأنه أن يساهم في تحقيق المصالحة بين التونسي وواقعه وتحسين وضعه النفسي الذي يبقى مرتبطا بالوضع العام للبلاد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire