يمتلك الإعلام في ظل التطور التكنولوجي الهائل قدرة هائلة على هندسة أشكال الأنساق الثقافية للمجتمعات الحديثة متجاوزاً بذلك وظيفة الترفيه إلى التأثير في البنى الثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، ولما كان مفهوم النخبة (Elite) واحداً من المفاهيم العصية على التحديد في ظل التطورات التي لحقت المجتمعات الإنسانية بعد الثورة العلمية، والتكنولوجية التي عرفها عالم إنتاج الصورة، فإن الإعلام تفرَّد بدور مهم في تحديد مفهوم النخبة وفق ثلاثية السيطرة المطلقة: (المعرفة/المال/السلطة)، إذ أمكن للجماعة التي تنفرد بهذه الثلاثية أن تتنفذ في المجتمع، وأن تتحكم في منتجاته الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، فأقرَّ الإعلام بذلك حق السيطرة لهذه الجماعة ووسمها بالنخبة (Elite)، مستفيداً من اعتراف أفراد المجتمع بها، وبتأثيرها، وسيطرتها في شؤونهم، وسير حياتهم، بل إن المجتمع منح هذه الجماعة حصرياً مميزات القوة والخبرة في ممارسة السلطة والتنظيم داخل المجتمع، فكان لها حق القيادة، والتسيير، والتنفُّذ.
وتكاد أغلب التعريفات للنخبة التي نظرنا فيها تجمع على أن النخبة (Elite) جماعة من أفراد المجتمع تتمتع بخصائص ثقافية، وفكرية، واجتماعية مكنتها من التأثير في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية للمجتمع فراحت تسير شؤونه، وتخضعه لتوجيهاتها، وتقوده بطريقة شرعية في مظهرها، تعسفية في جوهرها، ولا تكاد تخرج هذه التعريفات عن فكرة حشر السياسيين، ورجالات العلم، وحملة الشهادات العليا، ورجال الدين في زمرة النخبة، غير أننا في هذا المقال سوف نشير إلى نخبة جديدة نشأت مع تطور الصورة الإعلامية.
النخب الجديدة
استطاع الإعلام بفضل تطور منظومة الصورة أن يشكل العمود الفقري للخداع الجماعي في المجتمعات الحديثة لقدرته على بث مفاهيم هي مزيج من مكونات مختلفة من: الرغبة والخوف، والعنف، والإغواء، والاستهلاك، وبخاصة أن الصورة الإعلامية صارت تمثل أهم قيمة ثقافية باعتبارها صيغة تعبيرية جمهورية في الثقافة البشرية، إذ أمكن لها أن تبسط سطوتها على الجمهور العريض بتنوعاته الثقافية المختلفة مستفيدة من بساطة استقبالها مما وسع القاعدة الشعبية للثقافة التي رغبت الصورة الإعلامية في ترسيخها في فهم العامة، وهذا الدور الخطير الذي تحقق مع الصورة أدى إلى خلخلة مفهوم النخبة بعدما صار الجميع سواسية في التعرف على العالم.
وهذا يعني أن النخبة بمفهومها القديم فقدت دورها في القيادة والوصاية وتلاشت تبعاً لذلك رمزيتها التي كانت تملكها من قبل، ولم تعد الثقافة تقدم رموزاً فريدة لا في السياسة، ولا في الاجتماع، ولا في الفن، ولا في الفكر، فتلاشت الرمزية، وحلت محلها النجومية، ودخلت فئات بشرية جديدة كانت مهمشة إلى عالم الشهرة، والظهور العلني المبهر الذي يعتمد في تألقه على صناعة الفرجة التي تقوم على التنميط والإنتاج الآلي للسلع الثقافية الذي يمعن في صناعة التطبيقات الزائفة، والنسخ المتكررة، وأشباه الأشياء لا الأشياء في حقيقتها، لتصل الصورة الإعلامية في نهاية المطاف إلى توحيد منتجاتها، وتنميطها، وتسطيحها إلى الحد الذي ابتذل فيه ذوق الجماهير، وتبلّد شعورها، وزيف وعيها، فتحولت الوسيلة الإعلامية إلى آلة جبارة تصنع الوهم، وتنشر النسخ، وتشيع التنميط في المنتجات الثقافية، وبذلك تكشف الوجه القمعي للمجتمعات الحديثة التي استثمرت في عالم الصورة الإعلامية التي تعمل على صناعة نخب جديدة كانت في وقت سابق في الهامش أو خارج إطار التأثير في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية.
وهذا يقودنا إلى فكرة أشارت إليها مدرسة فرانكفورت بزعامة أدورنو وهوركايمر (Adorno and Horkheimer)، وهي أن التطور التكنولوجي الذي استفادت منه الصورة الإعلامية سوف يكون مقدمة لهيمنة المجتمعات التكنولوجية المتطورة ذات الطابع الكلياني والشمولي التي تعمل على تدعيم برامج إعلامية شعبوية ثم توجيهها توجيهاً براغماتيا يتحول من خلالها الفرد إلى إمعة تحت رحمة أجهزتها المالية والبيروقراطية فيذعن لما تمليه عليه البرامج الإعلامية ويصدق كلامها ويأخذ بأمرها، لتصح بذلك مقولة بودريار الذي أعلن سنة 1983عن (نهاية مجتمع المشهد) الذي يعتمد في تكوين تصوراته على الصور الحقيقية، وظهور مجتمع جديد يعتمد في تصوراته للواقع على الصورة المحاكية (المقلدة)، وهذا يعني أن التصورات الجديدة للنخبة سوف تتشكل من خلال القوانين التي تفرضها البرامج الإعلامية.
الصورة الإعلامية تغتال النخبة
يذهب بودريار (Baudrillard) في حديثة عن الصورة إلى فكرة اجتماعية اتصالية تتعلق بالصورة الإعلامية التي تعرض صوراً نسخاً تمثل نوعاً من الواقع المزيف الذي يتجاوز الواقع الفعلي نفسه، فتوهمنا الصور المعروضة أنها الواقع الحقيقي، بل إن هذه الصور المنسوخة تعمل على اغتيال الصور الحقيقية من خلال التضخيم الأيقوني الذي يؤكده قانون غريشام (Greshams Law) الذي ينص على أن (الصورة السيئة تطرد الصورة الجيدة)، فهذه البرامج الإعلامية التي تقدم نماذج ثقافية جديدة هي أيضاً تصنع نخباً جديدة خصوصاً أن الصورة تحولت من وسيلة إعلامية إلى سلطة مهيمنة توظف الدعاية الإعلامية بمعناها الواسع (سياسية، أيديولوجية، اجتماعية، ثقافية..)، وتقدم للمجتمع ثقافة جاهزة قد ينفر منها في البداية ثم يستغرب وينتهي به الأمر بعد الإلحاح الإعلامي عبر الصورة إلى رومها وقبولها، ولعل هذا ما يفسر ظهور هذه النخب الجديدة القديمة التي ظلت مستترة تحت الظل بعيدة عن التأثير في المجتمع، لتصنع سلطتها من خلال المال الوسخ، والسياسة القذرة.
البرامج الإعلامية الشعبوية والنخبة الجديدة
قام عدد من الباحثين الأمريكيين في أواخر ستينات القرن الماضي بسلسلة من الأبحاث التحليلية المكثفة حول البرامج الإعلامية في الولايات المتحدة الأميركية، ووصلوا بأبحاثهم إلى أن هذه البرامج الإعلامية قادرة على تغليط المجتمع وصناعة الصنم الذي تريد، وأن لها القدرة على التحكم في الجمهور (المجتمع) من خلال اقتراح نماذج ثقافية جديدة يرضخ لها المجتمع عبر استفادتها من النزوع العام الذي طرأ على الفرد الذي توجه تلقاء الترفيه بشكل يتأتى معه الإقبال على استهلاك المواد والبرامج استهلاكاً محموماً كما تستهلك السلع، ولعل هذا ما يفسر ظهور النخب الجديدة التي أفرزتها البرامج التلفزيونية الشعبوية المنجزة بإحكام، ويكفي أن ندلل على ذلك بالبرامج الغنائية والراقصة التي انتشرت في القنوات العالمية مثل البرنامج الغنائي العالمي (PopIdol)، وبرنامج (TheVoice)، وبرنامج (Dancing with the Stars)، وبرنامج (Got Talent).. وغيرها من البرامج الإعلامية الشعبوية التي تقوم على الفرجة والحرص على إرضاء رغبات الناس البسيطة، والغريب في الأمر أن هذه النخب الجديدة التي أفرزتها البرامج السالفة الذكر وغيرها وجدت طريقها إلى عالم الشهرة والمال والسياسية، فأمكنها التحكم في المنتجات الاجتماعية والثقافية والفكرية للمجتمع، والمؤسف أكثر أن المتأثرين سلباً بمثل هذه البرامج الإعلامية الشعبوية التي صنعت نخبة جديدة هي المجتمعات العربية التي سقطت ضحية الصورة الإعلامية والوعي المعلب، ولو تواصل الحال على هذه الوتيرة من الهبوط الفكري والثقافي والاجتماعي لربما سيأتي اليوم الذي سيترشح فيه متصدر قائمة الناجحين في برنامج أراب آيدل (ArabIdol) في الدول العربية إلى الانتخابات الرئاسية فيفوز بأغلبية ساحقة، ويشكل حكومته من فرقة موسيقية، يكون وزيرها الأول قائد الجوقة أو الأوركسترا، ويغير النشيد الوطني بإحدى أغانيه التي يحفظها الشعب العربي.
http://arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?id=6271
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire