https://www.facebook.com/nasr.sami.397/

mardi 16 novembre 2021

تأثير وسائل الإعلام على الجمهور... قراءة في سوسيولوجيا الاعلام الاجرامي

 

تأثير وسائل الإعلام على الجمهور

قراءة في سوسيولوجيا الاعلام الاجرامي

 


بقلم الد. سامي نصر

باحث في علم الاجتماع

    مثّلت وسائل الإعلام أحد المواضيع الأساسيّة التي تناولها علماء الاجتماع، وخاصة في الأربعينات من القرن الماضي. ونقصد بذلك "سوسيولوجيا وسائل الاتصال الجماهيري"، كفرع من فروع علم الاجتماع قائم على نموذج وضعه عالم الاجتماع الأمريكي هارولد لازويل Harold Lasswell، وينبني هذا النموذج على قائمة من خمسة تساؤلات وهي: 

 من؟    Who

يقول ماذا؟   Says What

بأي وسيلة؟       In Wich channel

لمن؟   To Whom

وما هو التأثير   With What effect

حيث نلاحظ من خلال هذه التساؤلات الخمسة أن لازويل حاول من خلالها الإحاطة بكل ما يمكن أن تتضمّنه الرسالة الإعلامية.

ثم في سنة 1976 حاول روبرت اسكاربيت إعادة صياغة نموذج لازويل من خلال اختزاله في أربعة أسئلة ركّز فيها بشكل أساسي على المتقبّل وهي:

من؟

يستقبل ماذا؟

في أي جماعة؟

بغية أي تأثير؟

 وما تجدر ملاحظته في هذا السياق هو أن كل النماذج العلميّة والسوسيولوجيّة سوى أكان نموذج لازويل أو نموذج اسكريبت أو نموذج عالمة الاجتماع الفرنسيّة آن مارى لولان A.M. Laulan ركّزت على محتوى الرسالة الإعلاميّة أو التأثيرات المباشرة وغير المباشرة  لها على الجمهور المتقبّل للرسالة، سوى على مستوى الممارسات اليوميّة أو الرأي العام. ونظرا لخطورة تأثيرات وسائل الإعلام على الرأي العام، أصبحت وسائل الإعلام موضوع بحث بالنسبة للعديد من الاختصاصات العلميّة، أو المؤسسات التي لها علاقة بالجمهور وبالرأي العام ومن بين هذه المؤسسات نذكر: المؤسسة التشريعيّة التي يناط على عهدتها كل ما له علاقة بالتشريع  والمؤسسة الأمنيّة المسؤولة على الأمن والاستقرار في البلاد. فمثلا، منذ "المؤتمر الأوّل لمديري العلاقات الخارجيّة بوزارات الداخليّة في الدول العربيّة، أثير موضوع تأثير وسائل الإعلام والثقافة على الرأي العام، وكان هناك اتفاق على أن لهذه الوسائل أثرها الفعّال في تشكيل القيم والاتجاهات المناهضة للجريمة، والمساعدة على إقرار الأمن وفي المقابل، هناك اتفاق مماثل على أن هذه الوسائل قد تنحرف أحيانا عن القيام بدورها المطلوب، بل تؤدّي إلى تأثير معاكس يشجّع على الانحراف ويعزي بارتكاب الجريمة من خلال ما يعرض بالسينما والتلفزيون أو ما ينشر بالصحف والمجلاّت"[1]

-4- كيفيّة مساهمة وسائل الإعلام في انتشار الظاهرة الإجراميّة:

   أصبحت قضيّة العلاقة بين وسائل الإعلام والظواهر الإجراميّة مركز اهتمام العديد من الباحثين في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، واحتلّت صدارة المؤسسات الاجتماعيّة التي تمّ اتهامها بتدعيمها للسلوك الإنحرافي والإجرامي.

   فمثلا، أظهرت بعض الدراسات العلميّة في إسبانية أن 39 في المائة من الشبان المنحرفين تلقّوا معلوماتهم التي استمدّوها في تنفيذ جرائمهم من التلفزيون[2]

    كما عبّر عالم الاجتماع الكندي "مارشال ماكلوهان" عن القدرة التأثيريّة لوسائل الإعلام من خلال تمييزه بين مقولتين متشابهتين في النطق ومختلفتين في المعنى، أي مقولتي le message (الرسالة) و le massage (التدليك) ويرى أن وسائل الإعلام اليوم تخلّت عن الوظيفة الأولى لتحل محلّها الوظيفة الثانيّة أي التدليك...

وتظهر علاقة وسائل الإعلام بالظواهر الإجراميّة في ثمان نقاط أساسيّة وهي:

أوّلا، التعليم:

    فمن خلال نشر تفاصيل ارتكاب الجريمة سوى أكانت عبر وسائل الإعلام المكتوبة، في إطار نقل الأحداث والوقائع، أو عبر الأشرطة والأفلام المستوحاة من قصص واقعيّة أو خياليّة.. يمكن للفرد تعلّم "أساليب ارتكاب الجرائم وأنماطها عن طريق ما تنشره من وسائل سرقة السيّارات، وإخفاء معالم ملكيتها، وكيفيّة تزوير الوثائق، ووسائل الغش التجاري وغيرها من أساليب الانحرافات السلوكيّة"[3] ، بحيث تحوّلت بعض وسائل الإعلام إلى مدرسة جيّدة لإتقان فنون الجريمة.

ثانيّا، قتل الاشمئزاز والاستنكار من الجرائم:

    إذا كان الاشمئزاز الاجتماعي على حد تعبير إميل دوركايم أحد أهم الدوافع التي تجعل الفرد ينبذ الجريمة والإجرام، فإنّ كيفيّة نشر خبر الحدث الإجرامي أو جعله ركن أساسي في وسائل الإعلام، يجعل من الممارسات الانحرافيّة والإجرامية سلوكا عاديّا تنتفي في ارتكابها أي نوع من الاشمئزاز والاستنكار سوى من طرف الشخص الذي يرتكب الجريمة أو بقيّة أفراد المجتمع. أو بلغة أخرى تقتل بعض وسائل الإعلام ما يمكن تسميته بـ "المناعة الردعيّة"، هذه المناعة التي كثيرا ما تكون نتائجها أكثر وقعا من العقوبات التأديبيّة.

ثالثا، جعل الجريمة مرغوبة:

     من بين الانعكاسات المباشرة لوسائل الإعلام على الأطفال والشباب هو جعل المجرم شخصا جذّابا من خلال البطولات التي يقوم بها، وذكاءه الخارق للعادة، و... بل قد يصير هذا المجرم نموذجا ورمزا في خيال المتقبّل، وتكون الانعكاسات أكثر قوّة عبر ما يعرض من أفلام وأشرطة في التلفاز، خاصة عندما يقوم بدور المجرم نجم من النجوم السينمائيّة المحبوبة لدى الجمهور كالممثل عادة الإمام وسعيد صالح وفريد شوقي و... ونفس الشيء يحصل في الصحف المكتوبة عندما تصوغ الخبر الإجرامي بأسلوب جذّاب، فـ"التوسّع في نشر تلك الأخبار يجعل الجريمة جذّابة والمجرم شخصا خياليّا، وتكون النتيجة أن الشباب المغامر يحاول أن يقتفي أثر هؤلاء المجرمين ليكون له نصيب من بريق الجريمة..."[4]

رابعا، جعل الحياة اليوميّة للمجرمين جذّاب:

    تتضمّن العديد من الأشرطة والمسلسلات البوليسيّة تفاصيل عن طرق معيشة المجرمين ومحترفي الإجرام وتسلّط الأضواء على البذخ والتمتّع بملذّات الحياة، وخاصة التمتّع بالسلطة والنفوذ الموازية لسلطة الدولة والقانون، كما هو الحال في شريط "الهانم" والذي يروي قصّة عصابة مختصة في تجارة الأسلحة والمخدّرات تترأسها امرأة تتميّز في الآن نفسه بالشدّة والعطف، تمكّن أفراد العصابة من تهريبها أثناء ترحيلها إلى السجن، تعيش هذه العصابة في منطقة جبليّة ويحكمها "قانون الهانم" والمقصود به في الشريط قانون السلاح والقوّة، وهو نفس الاسم الذي تحمله رئيسة العصابة، لقد قدّم الشريط صورة جماليّة رائعة لحياة هذه العصابة وتمسّكها بالقيم والمبادئ التي تسير عليها... وطبعا حقّق هذا الشريط نجاحا كبيرا في مصر وفي العالم العربي. وتقريبا نفس الصورة نجدها في العديد من الأشرطة السينمائية والمسلسلات، الشيء الذي يجعل المتفرّج يطوق إلى العيش في مثل تلك الظروف.  ويقول الدكتور علي بن  فايز: "قد يكون من سلبيات إظهار الجرائم، إبراز وتأكيد طرق معيشة المنحرفين، حيث تتسم حياتهم بالبذخ والإسراف، أو قد تظهرهم بالمظهر الذي يدعو إلى الشفقة عليهم نتيجة لحياة التشرّد والبؤس والتعاسة والهروب من العدالة، ممّا يثير شفقة القارئ الذي يتّسم سلوكه بمخالفة الضوابط الاجتماعيّة"[5]. كما تقدّم العديد من الأشرطة والمسلسلات صورا لطرق عيش مختلفة لشخص واحد مرّ في بدايته بالفقر والحرمان من كل شيء ثم ما أن دخل عالم الإجرام حتّى انقلبت حياته وأصبح يتمتّع بكل ما كان محروم منه، أو بلغة أخرى تحوّلت العديد من وسائل الإعلام إلى أداة إشهار لصالح الحياة الإجرامية الانحرافية.

خامسا، التقليد والمحاكاة:

    تمثّل ظاهرة تقليد ما يعرض في وسائل الإعلام من أكثر الآثار المباشرة على سلوك أفراد المجتمع وخاصة فئات الأطفال والشباب، حيث يبدأ التقليد عادة باستعمال ألقاب مستوحاة من الأفلام والمسلسلات التلفزيونيّة، ثم تنتقل بسرعة إلى مستوى الممارسات الفعليّة والتي تتجلّى في التقليد والمحاكاة.

   أو على حد قول عالمة النفس ليليان لورسا ، في المقابلة التي أجرتها معها جان ريمي ديلياج حين سألتها "كيف تظهر تلك السيطرة؟ (سيطرة جهاز التلفاز على الأطفال). وكانت إجابتها: "بالفتنة، فنحن نريد أن نكون على الشكل الذي يظهر على الشاشة، فهناك التقليد الإرادي لأبطال التلفزيون، وهناك أيضا التقليد اللاإرادي وخاصة ما يحدث بسبب التشبّع الحسّي-الحركي Perceptivo- Motrice الناتج عن تكرار المواضيع. وعلى حد قول أستاذي هنري والون فإنّ التشبّع عن طريق الانفعال يؤدّي إلى التقليد أي بداية لا إراديّة. والتشبّع هو نوع من أنواع التعلّم يتميّز بأنّ الشخص يتعلّم دون أن يدري أنّه يتعلّم وبالتالي دون أن يدري ما يتعلّمه.."[6]

سادسا، فقدان الأسرة لمكانتها وللدور الذي كانت تقوم به:

     تلعب الأسرة في العادة دور الوسيط الإيجابي بين الفرد والقيم الاجتماعيّة، إذ تحاول عبر التنشئة الاجتماعيّة خلق نوع من الحصانة التربويّة تحول بين الطفل وبين الانحراف. كما تقوم أيضا عبر آليات متنوّعة بخلق التوازن النفسي والاجتماعي بين المحيط الخارجي (الروضة، المدرسة، الشارع، الأصدقاء...) وبين ما تطمح له العائلة من وراء السياسة التربوية الأسريّة. بحيث كنّا  نتحدّث عن سيادة أسريّة وعن عالم أسري يسيطر عليه ربّ العائلة وفي المقابل ذلك نجد عالما خارجيّا يتشابه ويختلف عن نمط العالم الأسري، ولكن ومع دخول جهاز التلفاز والدور الذي أصبح يقوم به، وخاصة سيطرته الكليّة على الأطفال بدأت هذه الأسرة تفقد مكانتها تدريجيّا، وأصبح من الغير الممكن الحديث عن عالم أسري وعالم خارجي، فكل التأثيرات التي كانت الأسرة تخاف منها وتمارس سلطتها لمنع التأثير بها صار يشاهده الأطفال والشباب داخل البيت لا خارجه، كما أصبح تأثير التلفاز أكثر فاعليّة من الأسرة، بل حتّى ربّ العائلة ذاته انساق تدريجيّا وراء هذا التيّار. كما أنّ ظاهرة الإدمان على مشاهدة التلفاز لا يقتصر على الفئات الشبابيّة والأطفال بل وصلت عدواه إلى ربّ الأسرة وبقيّة أفراد العائلة. "إنّ الأطفال اليوم وكما يقول الباحث الألماني "مارتن" ليسوا مشاهدين فقط وإنّما هم شركاء في الأحداث وفي التمثيل. فهم يعيشون مع الحدث ويشاركون فيه. ويتأثرون بالتجربة تأثيرا واقعيّا حيّا لدرجة أن التلفزيون لم يدع للأسرة فرصة للبحث في شؤونها لأنّه بالرغم من وجودهم جميعا في البيت إلاّ أن التلفزيون استحوذ على انتباههم فصرف كلا منهم عن الآخر."[7]

     وفي نفس السياق تقريبا ذهبت الباحثة الكنديّة "ك. تاجرت" حيث تقول: "إن القيم التقليديّة التي تبثّها الأسرة في الأطفال آخذة في الضمور والاضمحلال لتحل محلّها قيم تلفزيونيّة مشتقّة من أفلام رعاة البقر ومسلسلات العنف وتمثيليات الجنس والجريمة، وهي دائرة ضخمة من الآثار الوخيمة ذات الحلقات المتّصلة..."[8]

    وأكّدت ليليان لورسا بأنّ الطفل اليوم يصبح يعيش في عالم مصطنع عوضا عن عالم العائلة، "فعندما يصبح التلفزيون هو النافذة الوحيدة على العالم، فإنّه بسبب ظاهرة إدمان تغلق الفرد وسط عالم مصطنع، ولكن هذا الإدمان ما هو إلاّ علامة لمشكلة أكثر عمقا. يقول سيرج تيسرون أخصائي أمراض النفس "لو مال الطفل إلى جانب الصور وقضّى جلّ وقته أمام شاشة التلفزيون فذلك بسبب فشله في الاتصال بالكبار، وعندما يقلّ التفاهم والنقاش داخل البيت فإنّ الطفل يلجأ إلى الصور"[9]

سابعا، فقدان الاستقلاليّة:

    تساهم وسائل الإعلام بشكل عام وجهاز التلفاز بشكل خاص في فقدان استقلاليّة الفرد أو الشخص المتقبّل للرسالة الإعلاميّة، بحيث تحوّل هذا الجهاز إلى مصدر تعليم وتوجيه ومصدر انصياع من قبل المتقبّل، فـ "مع دخول التلفزيون إلى البيوت، أصبح الأطفال خاضعين إلى تأثيرات كثيرة. وعندما يصبح التلفزيون أداة اجتماعيّة، فذلك يعادل ظاهرة على مستوى كبير من فقدان الاستقلاليّة المعروفة في علم النفس المتعلّق بنمو الطفل في البداية حالة الالتحام مع العائلة، ثم يكبر بعدها ويقول "أنا" ويعارض. وهذا ما يعرف بالتفرّد أو التميّز عن الآخرين، لكن التلفزيون يخلق حالة التحام جديدة لا يستطيع الطفل فيها أن يقول "أنا" أو "لا" لأنّه في موقع المسيطر عليه"[10] وبذلك يفقد كل استقلاليته ويصبح عبارة عبدا لجهاز التلفاز.

ثامنا، قتل الإحساس جرّاء مشاهدة برامج العنف:

    من بين الطرق التأثيريّة الأخرى لوسائل الإعلام على سلوك الأفراد والجماعات هو قتل الإحساس تجاه الآخرين خاصة في حالة برامج العنف التي أصبحت اليوم تطغى بشكل بارز في جلّ البرامج التلفزيّة وخاصة المخصّصة منها للأطفال، فحسب دراسة إحصائيّة أوّليّة قمنا بها خلال سنة 2004- 2005 لأكثر القنوات التلفزيّة جاذبيّة من طرف الأطفال وهي قناة (S.toon) سجّلنا نسبة تجاوزت الـ80% من البرامج التي تتضمّن أعمال عنف وحروب. وتقريبا نفس النسبة أي 87.38% في برامج روتانا سينما، وعلى نفس المنوال تسير قناة ميلودي أفلام...  "وحسب دراسة أمريكيّة قامت بها ميديا سكوب Médiascope يتّضح أن 75 في المائة من أعمال العنف على الشاشة لا يعاقب أصحابها عليها. والأسوأ من ذلك أن فاعليها لا يهمّ إن كانوا شخصيات إيجابيّة أو سلبيّة في الشريط"[11]   "ففي عام 1990 وجدت الجمعيّة الوطنيّة لثقافة الصغار أن الأطفال الذين تعوّدوا على رؤية برامج العنف أصبحوا أقلّ إحساسا بآلام الآخرين، وقتل الإحساس يمكن يترجمه الطفل عبر سلوكيات مختلفة ومتطوّرة ومتصاعدة، إذ تبدأ باستعمالات اللفظيّة العنفيّة، ثم في مرحلة ثانيّة تتجه نحو الألعاب التي بحوزته أو بحوزة غيره، وتتطوّر شيئا فشيء لتنتقل إلى الواقع الفعلي مع بقية الأطفال، فـ أكّدتها عالمة النفس "لو لم يستطع الطفل التخلّص من مشهد عنف في التعبير عنه بالكلمات، أو باللعب، أو بالرسم، فلا شكّ أنّه سيعبّر عنه بالعمل"[12]

     وتذهب بعض الدراسات الأخرى إلى أنّ لجرائم القتل الناتجة عن فقدان الإحساس لها علاقة مباشرة بتأثير التلفاز، مثلما  ورد بالمجلّة الطبيّة JAMA في العدد10 يونيو 1992 دراسة إحصائية والتي أجراها B.S. Centerwall في قسم الأمراض النفسيّة وعلم السلوك في جامعة واشنطن بولاية سيتل، حيث تم جمع المعلومات بعد 40 عاما من الملاحظة التي تتعلّق بجرائم القتل في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وكندا وجنوب إفريقيا. وقدّم في هذه الدراسة العديد من الأرقام الدالة على العلاقة بين التلفاز وجرائم القتل، إذ بين عام 1945 و1974 ارتفع معدّل جرائم القتل عند البيض بنسبة 93 في المائة في الولايات المتّحدة وبـ 92 في المائة بالنسبة لكندا أمّا في جنوب إفريقيا، فقد انخفض هذا المعدّل بنسبة 7 في المائة. ولكن بعد عشر سنوات من دخول التلفزيون عام 1975 فقد ازداد هذا المعدّل بنسبة 130 في المائة...[13]

     ونفس الفكرة تقريبا نجدها عند عالمة النفس سيلفي منسور والتي تقول بأنّ من أهم مخلّفات تكرار مشاهد العنف لدى الأطفال والشباب هو فقدان الإحساس لديهم

     إضافة للطرق المذكورة في كيفيّة تأثير وسائل الإعلام على المتقبّلين، قدّم لنا عالم الوظائف النفسيّة توماس مولهولاند دراسة أجراها بمستشفى بيدفورد بالولايات المتّحدة، على المشاهدين الصغار عن طريق مسجّل لموجات الدماغ، فوجد أن الموجات من نوع "ألفا" هي الغالبة في الرسم الدماغي وهي أيضا الموجات الغالبة في حالة الاسترخاء (حيث لا نفكّر في شيء !).

     ففي هذه الحالة يكون الطفل أكثر عرضة للتأثر بما يعرض على شاشة التلفاز، وتنعدم لديه القدرة على المقاومة أو التمييز بين ما يحمله من قيم ومبادئ وبين ما يعرض عليه. ولهذا نتائج عدّة: أوّلا، وكما أكّده عالم فسيولوجيا الأعصاب البريطاني نورمان ديكسون أن الاستعداد لقبول الاقتراحات في هذه الحالة من الارتخاء النفسي والحسّي –التي هي بين اليقظة والنعاس- هي أكثر أهميّة من حالة اليقظة.. وثانيا، تزيد هذه الحالة من قابليّة ما يعرفه علماء النفس بسيكولوجيا الإعجاب الثانوي. التي تتم فيها –إلى درجة ما- العزلة الحسيّة بوساطة تركيز الحواس على شيء ثابت (مثل جهاز التلفزيون)[14].

-4-  نماذج مسجّلة عن التأثير المباشر لوسائل الإعلام على السلوك الإجرامي:

    سجّل العديد من الباحثين أمثلة حيّة للتأثير السلبي لوسائل الإعلام على السلوك الإجرامي، وكيفيّة استلهام فكرة الإجرام أو طرق تنفيذ العمليات الإجراميّة من إحدى وسائل الإعلام.

     ففي ألمانيا "ذبح السفاح الألماني " المشهور هايتريش" أوّل ضحاياه في إحدى الحدائق، وكان قد خرج لتوّه من دار السينما حيث شاهد فيلما يدعى "الوصايا العشر" ورأى النساء اليهوديات يرقصن حول "العجل الذهبي" فقرّر أن النساء هنّ الشرّ في العالم وخرج ليذبح المرأة المسكينة ليطهّر العالم في نظره من مصادر الشرّ".[15] وبنفس الفكرة والطريقة التي تضمنها الشريط المذكور.

    وفي مصر سجّل المختصون والباحثون العديد من الحالات التي استوحى فيها الجاني جريمته من الوسائل الإعلاميّة، فلقد ألقت الشرطة القبض على مجموعة من الشباب الذين احترفوا السلب والنهب، أكّدوا استلهامهم الفكرة من فيلم "أحنا التلامذة" بطولة شكري سرحان وأحمد رمزي.

     وفي نفس السياق وأثناء التحقيق مع إحدى الفتيات التي تمكّنت من السطو على أكثر من مليون جنيه. اعترفت بأنّها استوحت الفكرة من البرنامج الإذاعي "أجراس الخطر" وبلغت المفاجأة ذروتها حينما اعترف لصوص سيّارات البنك التي كانت تحمل مليونين من الجنيهات ومثلهما من الدولارات بأنهم استوحوا الفكرة من فيلم "المشبوه" لعادل إمام...

كما اعترف أحد النزلاء بالسجون المصريّة والمتّهم في سلسلة من الجرائم على الأشخاص والأملاك أنّه استوحى طرق تنفيذ عملياته الإجراميّة من فيلم "بطل النهاية" لفريد شوقي.[16]

   وفي تونس خلال شهر مارس 2006 وقعت بمدينة قابس جريمة سطو على طبيب قام بها 3 تلاميذ بعد أن استوحوا فكرة السطو وكيفيّة ارتكاب الجريمة من شريط سينمائي كانوا قد شاهدوه خلال تلك الفترة...[17]

 

 

 

-5- الإعلام بين مقولة الحريّة والمحدّدات القانونيّة :

    لقد كثرت الاتهامات الموجهة لوسائل الإعلام والعلاقة التي تربطها بالظواهر الإجراميّة وتأكيد بعض الدراسات بأنّ نشر أنباء الجرائم والأحداث الإجراميّة بأسلوب مثير من شأنه أن يوقظ لدى المتقبّل وخاصة الفئات الشبابيّة "دوافع كامنة، وتحرّك فيهم غرائز مختلفة ممّا يدفعهم إلى ارتكاب الجرائم".[18]

   وفي المقابل ويرى البعض أن الخطر لا يكمن في نشر أخبار الجرائم والمحاكم، وجعلها مادة إخباريّة، فبما أنّها تنضوي ضمن جملة ما يحدث في المجتمع وبما أن وسائل الإعلام هي عبارة عن مرآة حقيقيّة للمجتمع لذلك لا مانع في أن تكون الجرائم وكوارث المجتمع من بين المواد الأساسيّة لهذه الوسائل، ولكن الخطر الحقيقي يكمن في كيفيّة صياغة وتناول الأخبار الإجراميّة وهو نفس الموقف الذي دعا إليه الكاتب حسين عبد القادر حين قال: "الخطر الأكبر في نظرنا ليس في نشر الجريمة وإنّما في طريقة عرضها والأسلوب الذي تكتب به والصور الفوتوغرافيّة التي تصاحبها... إنّ من حق الصحافة أن تصوّر شرور المجتمع ولكن من واجبها أيضا أن تحمي المجتمع والشباب من أضرار النشر القائم على الإثارة والتشهير"[19]

    لأجل ذلك فرضت العديد من الدول قيودا قانونيّة ترافقها عقوبات زجريّة على كل وسائل الإعلام بما فيها الصحف والتلفاز وقاعات السينما، على اثر الانتقادات التي وجّهت لوسائل الإعلام..

    وقد ذكر الدكتور علي بن فايز أهميّة العناية بوسائل الإعلام والعلاقة التي تربط المؤسسات الإعلاميّة بالمؤسسات الأمنيّة ويقول في هذا الإطار "... ونظرا لتأثير أجهزة الإعلام على اتجاهات وسلوك الأفراد وخاصة في محيط الأحداث والشباب. فإنّ بعض ما يعرض أو ينشر أو يذاع يترك تأثيرا سلبيّا خطيرا على تربيّة النشء وعلى الأمن وسلامة المجتمع، لذا يصبح من المناسب إحاطة الأجهزة المسؤولة عن الرقابة بأبعاد وأخطار هذه الاتجاهات، والتعاون معها على تقديم الصورة التي تسهم في بناء المجتمع بناء سليما"[20]

    ولكن القيود القانونيّة ظلّت محدودة إذ أغلبها تقتصر إمّا على إلزام الصحيفة مثلا بعدم ذكر اسم الجاني أو المجني عليه، أو تحديد سن المتّهم الذي لا يجب ذكره في التغطيّة الإعلاميّة للأحداث الإجراميّة، أو منع استعمال آلات التسجيل والتصوير في قاعات المحاكم، ونذكر على سبيل المثال:

* القانون التونسي:

     بالنسبة للقوانين التونسيّة، وتحديدا "مجلة الصحافة" في صورتها الأخيرة والمنقحة،  فإنّنا أقل ما يمكن قوله هو أنّ المشرّع التونسي لم يهتم بجانب الإعلام الإجرامي أو ما يسمى بالقضاء الإعلامي، إذ لا نكاد نجد أي نص من شأنه أن يحدّد الضوابط القانونيّة للصحافيين حين تناولهم لمسألة أخبار الجريمة، فباستثناء الفصل 63 والذي يقول "يحجر نشر قرارات الاتهام وغيرها من الأعمال المتعلّقة بالإجراءات الجزائيّة قبل تلاوتها في جلسة عموميّة ويعاقب مرتكب ذلك بخطيّة من 120 دينار إلى 1200 دينار.

   ويسلّط نفس العقاب على من ينشر بطريقة النقل مهما كانت الوسائل لا سيما بالتصوير الشمسي أو النقوش المصوّرة أو الأفلام، كل أو بعض الظروف المحيطة بإحدى الجرائم أو الجنح المنصوص عليها بالفصول 201 إلى 240 بدخول الغاية من المجلة الجنائيّة.

بيد أنّه ليس هناك جريمة إذا ما كان النشر قد وقع بناء على طلب كتابي صادر عن الحاكم المكلّف بالتحقيق ويضاف المطلب المذكور إلى ملف التحقيق العدلي."

 كما تضمّن الفصل 64 من مجلة الصحافة بدوره بعض الإشارات القانونيّة للإعلام الإجرامي إذ يقول "... ويحجر أيضا نشر أسرار مفاوضات الدوائر والمحاكم. ويحجر أثناء المداولات وداخل قاعات جلسات المحاكم استعمال أجهزة التسجيل الصوتي وآلات التصوير الشمسي أو السنماتوغرافي إلاّ إذا صدرت في ذلك رخصة من السلطة القضائيّة ذات النظر. وكل مخالفة لهذه الأحكام يعاقب عنها بخطيّة من 120 إلى 1200 دينار مع حجز الوسائل المستعملة لذلك الغرض."

    لقد ركّز المشرّع التونسي على نوعيات من الجرائم، من الصعب جدّا الاستفادة منها ضمن هذا البحث مثل "جريمة التحريض" الواردة في الفصل 42 والفصل 43 و"جريمة النيل من كرامة رئيس الجمهوريّة" الواردة في الفصل 48 و"جريمة نشر الأخبار الزائفة" الواردة في الفصل 49 و"جريمة الثلب" الواردة في الفصل 50 و"جريمة الشتم" الواردة في الفصل 54. فباستثناء جريمة نشر الأخبار الزائفة فإنّ بقيّة الجرائم الأخرى لا علاقة لها بالإعلام الإجرامي.

* القانون الأنجليزي:

    أمّا المشرّع الأنجليزي فقد وضع جملة من المحدّدات والضوابط القانونيّة للإعلام الإجرامي، "ففي أنجلترا مثلا ليس من المحظور كتابة تقارير عن دعاوي الأحداث ولكن بقيود خاصة، مثل نشر أيّة معلومات تكشف عن شخصيّة المتّهمين الذين تقل أعمارهم عن 16 سنة. وهذا القيد ينطبق أيضا على الشهود في محاكم الأحداث في مثل هذا السنّ"[21]

* القانون الفرنسي:

        لا يختلف القانون الفرنسي كثيرا القانون الأنجليزي المذكور، إلاّ في السن الذي حدّده بـ18 سنة عوضا عن 16 سنة أو في تناوله لمسألة صور المتّهمين. "ففي فرنسا أيضا لا يجوز نشر تقارير عن قضايا الشباب الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة، كما لا يجوز نشر صورة أو صور الأعمال التي قبض عليهم من أجلها، وإنّما يسمح فقط بنشر الحكم والحروف الأولى من أسماء المتّهمين"[22].

ومن بين أهم ما تضمّنته النصوص القانونيّة المقيّدة لوسائل الإعلام في تناولها للظواهر الإجراميّة نجد:

- أخبار حول كيفيّة هروب الجناة من السجن أو مراكز الاعتقال.

- الأخبار المتعلّقة بالاعتداءات على رجال الأمن أو كيفيّة مقاومتهم

- الثلب والتشهير بالأشخاص.

-6- أهم الدراسات العلميّة التي تناولت علاقة الظاهرة الإجراميّة بالمؤسسة الإعلاميّة:

     نظرا للعلاقة القائمة بين وسائل الإعلام والظواهر الإجراميّة أجرى العديد من الباحثين دراسات ميدانيّة وإحصائيات هامة حول قوّة العلاقة بينهما، فمثلا "يضرب تشارترز أمثلة عديدة من دراساته حول دور التلفزيون في تلويث بيئة الطفل والمراهقين قائلا:... إنّ إثارة الغرائز الجنسيّة وعرض مناظر الداعرة على المشاهدين وتفجير الشهوات الجنسيّة للمراهقين تضرّ بجمهور الأطفال ضررا بالغا، وفي إحصائية استخلصها هذا الباحث من مجموعة الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميّا وجد أنّ:

   - 29.6 % منها تتناول موضوعات جنسيّة.

   - 27.4 % منها تتناول مواضيع الجريمة.

   - 15 % منها حول الحب بمعناه الشهواني المكشوف.[23]

كما توصّل أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة كاليفرنيا "رودريك جورني في دراسته حول العلاقة بين العنف ووسائل الإعلام "إلى أن الأشخاص الذين يشاهدون نسبة كبيرة من برامج العنف يميلون بالفعل إلى العنف في سلوكهم، بينما يميل مشاهدي البرامج الاجتماعيّة والإنسانية إلى سلوك أكثر اتزانا.[24]

    وتؤكّد إحصائيّات اليونسكو خطورة انتشار ظاهرة الإدمان على التلفاز، "ففي دراسة أجرتها اليونسكو مؤخّرا حول معدّلات التعرّض للتلفزيون لدى الأطفال والصبية العرب، تبيّن منها أن الطالب قبل أن يبلغ الثامنة عشر من عمره يقضي أمام التلفزيون اثنين وعشرين ألف (22000) ساعة، في حين أنّه في هذه المرحلة من العمر يقضي أربعة عشر ألف (14000) ساعة في قاعات الدرس.[25]

    كل هذه التجارب البحثيّة والدراسات العلميّة المهتمة بقضيّة العلاقة بين وسائل الإعلام والظواهر الاجتماعيّة وخاصة الإجراميّة، تجعلنا نتأكّد من احتياج الساحة العلميّة والسوسيولوجيّة لتأسيس وتدعيم التخصّصات العلميّة القادرة على تقديم إضافة في هذا الغرض.   

 



[1]   د. علي بن فايز: "الإعلام الأمني والوقاية من الجريمة" – أكاديميّة نايف العربيّة للعلوم الأمنيّة – مركز الدراسات والبحوث الرياض عدد 204 سنة 2000 ص134 -عن مجلّة الشرطة، الإمارات عدد 90 .

[2]   د. علي بن فايز: "الإعلام الأمني والوقاية من الجريمة" – أكاديميّة نايف العربيّة للعلوم الأمنيّة – مركز الدراسات والبحوث الرياض عدد 204 سنة 2000 ص172.

[3]   د. علي بن فايز: "الإعلام الأمني والوقاية من الجريمة" – أكاديميّة نايف العربيّة للعلوم الأمنيّة – مركز الدراسات والبحوث الرياض عدد 204 سنة 2000 ص155.

[4]  المصدر السابق.ص154.

[5]   المصدر السابق.ص155.

[6]   ليليان لورسا عالمة النفس في المركز الوطني للبحث العلمي، أثناء لقاء مع جان ريمي ديلياج –"مجلّة ثقافة عالميّة" ترجمة محمد قصيبات، العدد89 -1998 .ص146.

[7]  المصدر السابق. ص161.

[8]  المصدر السابق. ص162.

[9]  ليليان لورسا عالمة النفس في المركز الوطني للبحث العلمي، أثناء لقاء مع جان ريمي ديلياج –"مجلّة ثقافة عالميّة" ترجمة محمد قصيبات، العدد89 -1998 .ص146.

[10]   ليليان لورسا عالمة النفس في المركز الوطني للبحث العلمي، أثناء لقاء مع جان ريمي ديلياج –"مجلّة ثقافة عالميّة" ترجمة محمد قصيبات، العدد89 -1998 .ص146.

[11]   مجلّة ثقافة عالميّة. ترجمة محمد قصيبات، العدد89 -1998 .ص152.

[12]   ليليان لورسا مجلّة ثقافة عالميّة. ترجمة محمد قصيبات، العدد89 -1998 .ص153.

[13]    مجلّة ثقافة عالميّة. ترجمة محمد قصيبات، العدد89 -1998 .ص154-155.

[14]    أنظر مجلّة "الثقافة العالميّة" عدد 89 يوليو –أغسطس 1998 ص140-141.

[15]   المصدر السابق. ص 155- 156.

[16]  أنظر المصدر السابق. ص  166 -167.

[17]  انظر صحيفة الشروق بتاريخ 28- 03- 2006 ص19

[18]  مجلّة "الثقافة العالميّة" ، المصدر السابق. ص152.

[19]     السيدة صباح توجاني في رسالة خدم الدروس الجامعيّة بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار، تحت عنوان "التناول الإعلامي لقاض الإجرام في تونس: تحليل مضمون ركن القضاء بالصحافة اليوميّة والأسبوعيّة" 1991- 1992 ص.16.

[20]    د. علي بن فايز: "الإعلام الأمني والوقاية من الجريمة" – أكاديميّة نايف العربيّة للعلوم الأمنيّة – مركز الدراسات والبحوث الرياض عدد 204 سنة 2000 ص135 - عن مجلّة الشرطة، الإمارات عدد 88 ص21.

[21]    المصدر السابق. ص 152.

[22]   المصدر السابق. ص 152.

[23]    المصدر السابق .ص163.

[24]   المصدر السابق .ص164- 163.

[25]   المصدر السابق .ص171.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

التطبيع مع المرفوض بين الوهم والحقيقة

  التطبيع مع المرفوض مقولة وهمية لا يمكن للشعوب التطبيع مع ما ترفضه مهما كانت قوة المرفوض ومهما كانت درجة ضعف الرافض... كثيرا ما يفسر السكوت...