سوسيولوجيا
التسريبات
الاتصال
الموازي يهيمن على الاتصال الرسمي والمؤسساتي
د. سامي نصر
باحث في علم الاجتماع
التسريبات
تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى ظاهرة اجتماعية سياسية، ولكنها أيضا أصبحت شكلا من
أشكال الاتصال الموازي أو ما يعبّر عنها عالم الاجتماع الفرنسي ميشال كروزييه
باللاشكلي، ولم تعد التسريبات في حد ذاتها تثير المخاوف لا من حيث محتواها أو من
حيث الجهة المسرّبة أو الجهة المستهدفة بقدر ما أصبح الخطر الحقيقي يكمن في عملية
التطبيع مع هذه الظاهرة وخاصة تعويضها للاتصال المؤسسات أو الاتصال الشكلي.
التسريبات افراز طبيعي للوضع العام بالبلاد:
ما تعيشه البلاد اليوم من حرب التسريبات والتسريبات
المضادة يمكن اعتبارها من وجهة نظر سوسيولوجية حالة مرضية ولكنها حالة طبيعية
وافراز طبيعي للمناخ العام والوضع العام بالبلاد:
فمن جهة أولى،
التسريبات هي خطوة "جديدة" في الصراع السياسي القائم اليوم (أو شوط أخر
أو مرحلة أخرى من هذا الصراع)، إذ مررنا من مرحلة الشيطنة والشيطنة المضادة، إلى
مرحلة المقايضة بالفساد (تستر نستر، تفضح نفضح)، إلى مرحلة الاتهام والاتهام
المضاد وكل طرف يدعي امتلاكه لملفات تدين الطرف المقابل وسينشرها في الوقت المناسب،
إلى أن دخلنا بقوّة مرحلة التسريبات والتسريبات المضادة.
اذن، التسريبات الأخيرة كانت متناغمة بشكل كبير مع مراحل
الصراع السابقة.
من جهة ثانية، التسريبات هي آلية من آليات صراع الشكلي واللاشكلي
(بمفهوم عالم الاجتماع الفرنسي ميشال كروزييه) أو بالتعبير التونسي المتداول صراع
الرسمي والموازي. نعيش اليوم هيمنة اللاشكلي (الموازي) في كل المجالات، حكومة
رسمية وحكومة موازية، مسؤول رسمي ومسؤول موازي، إدارة رسمية وادارة موازية، إعلام
رسمي وإعلام موازي، تجارة مقننة وتجارة موازية... إلية التسريبات تتغذى وتنمو في
المناخات الموازية.
من جهة ثالثة، هناك علاقة
ترابطية قوية بين تفشي ظاهرة التسريبات وبين تفشي أزمة القيم، إذ أصبحنا نعيش اليوم أزمة قيم ومبادئ حادة غي كل المجالات تقريبا، وتجسدت اساسا (في
موضوعنا هذا) في توظيف التكنولوجيا الحديثة وشراء الذمم للتجسس بين الأصدقاء
والزملاء في العمل وخاصة السياسيين فيما بينهم، أو اعتماد الافتراء والتزييف
وتقديمها كحقائق، حيث كشفت حرب التسريبات معضلة قيم وأزمة أخلاقية حادة تعيشها
البلاد.
من جهة ثالثة، هناك علاقة قوية بين التسريبات من جهة، وعقلية
وثقافة “البوز” والإثارة من جهة أخرى. وأكثر من ذلك أصبحت هذه الأخيرة
("البوز" والاثارة) إحدى أهم أليات النجاح والوصول للنجومية وخاصة على
المستوى الإعلامي والسياسي، حيث أصبح الكل يريد أن يقوم بالإثارة مهما كان الثمن
سواء كان بالتطاول على الأشخاص أو بالتسريبات أو باستعمال الألفاظ النابية أو نشر
الإشاعات والأكاذيب... فكلها وسائل وأدوات لتحقيق «البوز” والإثارة.
من جهة رابعة، من الصعب جدا الفصل بين ظاهرة الإشاعة
وظاهرة التسريبات، أو الفصل بين كيفية التعامل مع الإشاعات وكيفية التعامل مع
التسريبات، إذ تصنّف الإشاعات مثلا في علم اجتماع الإشاعة إلى صنفين:
(أ)
الإشاعات المفتعلة:
← هناك جهة معينة تقف وراء خلق ونشر الإشاعة،
← هناك أجندة معينة يراد تحقيقها من وراء خلق ونشر الإشاعة.
نفس الشيء بالنسبة للتسريبات
(ب)
الإشاعات التلقائية: تتحمل مسؤوليتها المؤسسات الرسمية أو المعنية بالإشاعة وتكون
نتاج خلل في كيفية تعاملها مع المعلومات، إذ تقوم مثلا نظرية بودريس درهمان في علم
اجتماع الإشاعة على المعادلة التالية:
R = i x a
R= quantité de rumeurs كمية
الإشاعة
i = importance درجة
أهمية الخبر أو المعلومة
a = ambiguities درجة
الغموض
فبقدر ما تبادر المؤسسة أو الجهة المعنية بنشر الخبر أو المعلومة في الوقت
المناسب وبالطريقة الجيدة بقدر ما تنجح في غلق باب الإشاعة وتجنب التأويلات،
والعكس بالعكس. ونفس الشيء تقريبا بالنسبة للتسريبات.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو كيف تم التفاعل مع
هذه التسريبات؟ وهل مازالت التسريبات يمكن المراهنة عليها في إحداث التغيير
الاجتماعي؟ وهل يمكن اعتبارها ضمن الظواهر الاجتماعية والسياسية السلبية أو
الإيجابية؟
منذ البداية قلنا أن التسريبات هي خطوة
"جديدة" في الصراع السياسي القائم اليوم، حيث تم ذكر عبارة
"جديدة" بشيء من الحذر، إذ لا يمكن اعتبارها ضمن الظواهر الاجتماعية أو
السياسية الجديدة، فالمحرك الرئيسي لثورة 17 ديسمبر -14 جانفي تجسد في تسريبات
تقارير تفضح ممارسات وتعهدات النظام السابق، حيث كانت تونس ضمن شبكة تسريبات
"ويكيليكس" -والتي تُعتبر واحدة من أكبر التسريبات في تاريخ الولايات
المتحدة الأمريكية- حيث نشرت الوثائق الخاصة والسرية بالسفارة الأمريكية في
تونس، وبمعنى اخر نجح تسريب تلك التسريبات في تحريك الشعب التونسي وبدأ بشبكات
التواصل الاجتماعي باعتباره اعلاما بديلا ثم سرعان ما ترجم على أرض الواقع.
كما تجدر الإشارة إلى أن آلية التسريبات تعد من أهم
الاليات التي تعتمد عليها الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها فاعلا رئيسيا على
المستوى الوطني والدولي، فمنذ بدايات منتصف القرن العشرين ظهرت تسريبات ما يُعرف بـ"وثائق
البنتاغون" من قبل دانييل إيلسبيرغ، الموظف السابق في جهاز مجلس الأمن القومي
الأمريكي، والذي كان عام 1971 وراء تسريب "وثائق البنتاغون" التي غيّرت
الكثير من اتجاهات الرأي العام الأمريكي حيال الحرب في الفيتنام. مرورا بإدوارد
سنودن الذي سرّب في 2013 مواد ومضامين مصنفة على أنها سرية للغاية من وكالة الأمن القومي،
منها برنامج "بريسم" المختص في التجسس على الصحفيين إلى صحيفة "الغارديان" وصحيفة "الواشنطن بوست"، وليس انتهاء بـ"جون دوي" (اسم مستعار) الذي كان من بين
مسربي وثائق بنما للصحافة العالمية، أو بـ"مارك ويليام فيلت" - تم الكشف
عن هويته الحقيقية في 2005-.
وتعددت في تونس في السنوات الأخيرة التسريبات إلاّ أن
مفعولها التأثيري انخفض بشكل كبير رغم عمليات التجنّد لتوظيفها سياسيا واعلاميّا
سواء أكان على المستوى الوطني أو العربي أو الدولي. وهناك يمكن الوقوف على أربع
قوى معنية بالتسريبات الأخيرة:
أوّلا، القوى السياسية: فعلى المستوى السياسي لم يكن
لكل تلك التسريبات أي تأثير يستحق الذكر، حيث حافظت الساحة السياسية على نفس
تقسيماتها، فئة سياسية توظف التسريب وتشن حربا على خصمها لتدعم مواقف سابقة، وفئة
أخرى ترد على ذلك.
ثانيا، القوى الإعلامية: على المستوى الإعلامي سجلنا
تقريبا نفس توجهها السابق، وسائل الإعلام المنحازة لأطراف سياسية قامت بنفس دور
القوى السياسية بالاعتماد على خبراء ومحللين على مقاس تلك القوى السياسية أو مقاس
وسائل الإعلام التابعة لها. كما حاولت وسائل إعلام أخرى مواكبة الحدث واستثمار
التسريبات للـ"بوز" والإثارة... ومع ذلك كان تأثيرها على المستوى
المجتمعي أقل مما كان يتوقع مسرّب التسريبات.
ثالثا، الجهة المعنية بالتسريبات: يبدو أن الساحة
السياسية والحكومية بصدد مراجعة طريقة تعاملها مع التسريبات خاصة من الناحية
الاتصالية، حيث مرّ التعامل مع التسريبات والإشاعات بثلاث مراحل هي: مرحلة سياسة
النعامة أو رفض الرد على تلك التسريبات بتعلّة أنها أكاذيب مفبركة ومفتعلة ولا
ترتق إلى مستوى الرد عليها، ثم مرحلة الرد عليها في المجال الموازي وذلك عبر تكليف
ناطقين موازيين باسم تلك القوى المستهدفة من التسريبات وهنا نتحدث عن ثلة من
الخبراء والمحللين والإعلاميين المكلفين بمهمة الدفاع عن المستهدف من التسريب، أو
عبر تجنيد صفحات فايسبوكية وغيرها للرد على تلك التسريبات، وأخيرا مرحلة التحرّر
من سياسة النعامة ومن مرحلة الناطقين الموازيين إلى مرحلة الرد الرسمي وتكليف
ممثليين رسميين للرد على تلك التسريبات مثلها لمسناه مع السيد الحجام ممثلا لمؤسسة
رئاسة الجمهورية... هذا التطوّر الاتصالي ساهم بشكل رئيسي في الحد من مفعول وتأثير
تلك التسريبات.
رابعا، المواطن التونسي: لم نسجل أي تأثير يستحق الذكر
للتسريبات على المواطن التونسي وكأن الأمر لا يعنيه، وهذا يعود للأسباب التالية:
أولا، تحسن في المستوى الاتصالي للمستهدفين من
التسريبات،
ثانيا، أزمة ثقة عامة تشمل الكل، التونسي اليوم فقد
ثقته في المسرّب والمستهدف من التسريب وفي المدافع التي تستثمر وتوظف في التسريب
وأيضا في الطرف المقابل لها.
ثالثا، هموم ومشاغل الشعب لم تعد متجهة نحو حياة
وتوجهات السياسيين بل إلى حياته اليومية وصعوبة العيش
رابعا، كثرة التسريبات جعل المواطن التونسي يطبّع
معها، فحسب علم الاجتماع الإعلامي وتحديدا نظرية التشبّع الإعلامي تكثيف الحديث عن
نفس الموضوع يمكن أن يكون له نتاج عكسي لما يستهدفه مروجها.
د. سامي نصر
باحث في علم الاجتماع
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire