المواطن التونسي
يتجاوز أزمته بحلول وهمية
سامي نصر
انتشرت بشكل
ملفت للانتباه ظاهرة الشعوذة ببلادنا وبمختلف الدول العربية، إذ أكدت دراسات
إحصائية عربية أنه في العالم العربي يوجد مشعوذ واحد لكل 1000 نسمة من المواطنين،
وما يثير الانتباه أن هذه الظاهرة اكتسحت حتى فئة المتعلمين وأصحاب الشهائد
العلمية، مع تسجيل اقبال نسبة الاناث أكثر على المشعوذين (64% اناث و36% ذكور). كما سجلت إحدى
الدراسات أن 55 في المائة من المترددات على السحرة هن من المتعلمات ومن المثقفات،
و24 في المائة ممن يجدن القراءة. ومن جهة أخرى تشير العديد من الدراسات أيضا
إلى المردود الاقتصادي الخيالي للدجالين والمشعوذين الشيء الذي دعل عددهم يرتفع
بشكل جنوني وخاصة في السنوات الاخيرة.
وجدير بالذكر
أنه مع التطورات الحاصلة في عالم الاتصال والتواصل وخاصة عبر الانترنت وشبكات
التواصل الاجتماعي انتشرت العديد من المواقع المختصة في مجال الشعوذة بل أضيفت في
الفترة الأخيرة العديد من التطبيقات في الفايس بوك لتقوم بدور المشعوذ والعراف... كما
كشف تقرير صادر مؤخرا عن المركز الأميركي "بيو" للأبحاث، أن ما يعادل
86% من متساكني شمال افريقيا (بما فيها تونس) مقتنعون بـ"وجود الجن"
مقابل 78% يؤمنون بـ"السحر" و80% متأكدين من حقيقة "شر
العين"، في حين لا تتجاوز النسبة 7% ممن أقروا بارتداء "تعويذات"
و16% من مستعملي "وسائل أخرى
لطرد شر العين ومفاعيل السحر". وبحسب التقرير، فإن حوالي 3% منهم متفقون
مع ضرورة "تقديم قرابين للتقرب من الجن".
دوافع ظهور
وانتشار ظاهرة الشعوذة:
من الناحية السوسيولوجية في فترة التحولات العميقة التي تحصل في المجتمع وخاصة كلما
تعقّدت ظروف الحياة وازدادت صعوبة تتنامى مشاعر عدم الاستقرار ويزداد انتشار
الخرافات، وبمعنى آخر تنتشر الخرافات أكثر بانتشار حالات القلق والاضطراب والشعور
بالضعف والعجز عن مواجهة مشاكل الحياة ومخاطرها، وفي هذا الإطار تصبح الشعوذة والخرافة
عبارة عن متنفس وملجأ لشريحة كبيرة من المجتمع، لتقوم بتهدئة المخاوف الناجمة عن
الاضطرابات التي تسود زمن التحولات الراهن. إذن، انتشار هذه الظاهرة له أسبابها الاجتماعية
والاقتصادية أيضا سياسية.
مظاهر تفشّي الظاهرة
تطالع المواطن التونسي أينما حل إعلانات تحثّه
على المشاركة في مسابقات يمكن أن يجني من ورائها مكاسب مادية، بل قد تغيّر مسيرة
حياته وتجعله ينتقل من الخصاصة إلى الثراء بمجرّد "ضربة حظ". وأصبح
التونسي بدوره يتلهّف على ذلك ليبقى يحلم بهذا الفوز، كما لم يعد الوهم مجرّد
ظاهرة مرضيّة تعاني منها فئة اجتماعيّة معيّنة في بلادنا، بل أصبحت في السنوات
الأخيرة إحدى أهم الوسائل الدفاعيّة للمواطن التونسي خاصة مع الظروف الاقتصاديّة
والاجتماعيّة القاسية التي يعيشها. ولم تعد مقتصرة فقط على الفئات المحدودة الدخل،
بل شملت تقريبا مختلف الشرائح الاجتماعيّة، إضافة إلى عدم ارتباطها بمستوى تعليمي
محدد، فكثيرا ما نجد من بين ضحايا جرائم الوهم أصحاب رؤوس الأموال وخرّيجي
الجامعات (إضافة لأصحاب الدخل المحدود والمستوى التعليمي المتدنّي). وأكثر من ذلك،
أصبحنا اليوم نتحدّث عن ثقافة الوهم والمتمثلة في الرغبة في الثراء المفاجئ دون
بذل أي مجهود، أي محاولة تجاوز الوضع الحالي للمواطن عبر الخيال والأوهام. وهكذا تحوّل
الوهم إلى ظاهرة اجتماعيّة تمسّ جل مكوّنات المجتمع التونسي، وكان لوسائل الإعلام
بمختلف أشكالها دورا رئيسيّا في ذلك. فكيف
تجذّرت ثقافة الوهم في المجتمع التونسي؟ ومن هم المستفيدون من هذه الثقافة؟
العديد من الأفلام والمسلسلات التي
تبثّها القنوات التلفزيّة وتستهوي المواطنين تسير في اتجاه نشر وتغذية ثقافة الوهم، خاصة عندما تروي لنا قصص
لفقراء تحوّلوا إلى كبار أثرياء البلاد وأصحاب نفوذ وسلطة، لتؤكّد أن الأمل في
الثراء والارتقاء الاجتماعي يبقى ممكنا ولا يحتاج إلى أي مجهود إذ تكف الفوز بإحدى
تلك المسابقات لتنقله من وضع إلى آخر.
كما تحوّلت عقلية المسابقات إلى آلية تتحكّم
في اشتغال مجتمعنا، إذ أصبح إدراج المسابقات ضمن العديد من البرامج
التلفزية والإذاعيّة شرطا أساسيّا لنجاحها والإقبال عليها. فقد بدأ هذا التمشّي يظهر
في مجتمعنا بشكل واضح مع برنامج "شمس الأحد" لهالة الركبي والذي حقّق
بفضل تلك المسابقات نجاحا ملحوظا على مستوى الإقبال والمشاركة، ثم تركّزت أكثر في
الفترة الأخيرة مع برنامج "آخر قرار" والذي تمكّن من شد المواطنين إليه،
وكنتيجة لذلك أصبح العديد من التجار وخاصة في الأسواق الشعبية يضعون عبارة
"آخر قرار" فوق لوحة الأسعار المعروضة لضمان جلب الحرفاء. وفي نفس
الإطار أيضا نجد برنامج "دليلك ملك" والذي حظي هو الآخر بنجاح على مستوى
الإقبال الجماهيري، وهو ما أكّدته العديد من الدراسات الإحصائيّة الخاصة بشركات
التسويق.
أمّا على المستوى الإذاعي فقد راهنت هي
أيضا على إدراج المسابقات وزراعة ثقافة الوهم لدى المواطنين في برامجها الإذاعيّة،
ويكف هنا أن نشير إلى المسابقة الأخيرة بإذاعة "الموزاييك" والتي أثارت
الكثير من الجدل خاصة بعد تعدّد شكاوي المواطنين من عمليات التحيّل والإيهام
بالفوز بجائزة المليونير وكما نصّت إعلاناتها المسابقة تكف رسالة قصيرة بسيطة عبر
الهاتف لتجعل من صاحبها مليونارا.
كما تحوّلت العديد من الصحف التونسيّة
إلى فضاء خاص بتلك المسابقات وكثيرا ما تضعها على صفحاتها الأولى، البعض منها
مجاني وتهدف الصحف من وراءه إلى تحسين قدراتها التوزيعيّة. والبعض الآخر يندرج ضمن
الإعلانات الإشهارية المدفوعة الأجر لصالح بعض الشركات والمؤسسات على غرار
المسابقات المتعدّدة والمتنوعة لشركة "تونزيانا" وشركة
"تلكوم"...
من المستفيد من ثقافة الوهم؟
بقدر ما تفشّت ثقافة الوهم لدى مختلف الشرائح
الاجتماعيّة تعدّدت الجهات المستفيدة والمستغلّة لهذه الظاهرة.
فعلى المستوى التجاري نلاحظ أن شركات
ومؤسسات التسويق كثّفت من عروض المسابقات وإيهام الفوز بالجواز الواقعية منها
والخيالية قصد توزيع منتوجاتها وخاصة المتعلّقة منها بالمواد الغذائيّة، فالمراهنة
على حسن التوزيع أصبح مقترنا بشكل أساسي بثقافة الوهم، إذ لا نكاد نجد عرضا لمنتوج
غذائي لا يراهن على المسابقات.
وعلى مستوى الخدماتي فإن الكثير من المؤسسات
الحكومية والخاصة أصبحت تراهن هي الأخرى على استثمار وتوظيف ثقافة الوهم، بل
أصبحنا نشاهد اليوم منافسة حادة بين بعض الشركات في هذا المجال مثلما هو الحال
بالنسبة لشركتي تونيزيانا وتلكوم، إضافة للمؤسسات البنكية والبريد التونسي الذي
أصبح في الفترة الأخيرة يقوم ببعض الإعلانات المتعلّقة بالربح.
أمّا على المستوى الإجرامي فإنّ
العديد من جرائم التحيّل والتي أصبحت تحتلّ مكانة متميّزة في عالم الجريمة ببلادنا
مرتبطة بشكل أساسي بثقافة الوهم مثل قضايا البحث عن الكنوز، والإيهام بالمساعدة على
الهجرة الشرعية، إضافة للعديد من قضايا الهجرة غير الشرعيّة. ومع تفاقم ظاهرة بطالة خرّيجي الجامعات ولهفتهم على البحث عن الشغل، وجد
بعض المتحيّلين فرصتهم في استغلال هذه الفئة رغم أهمية مستواها التعليمي، فقد ورد بإحدى الأسبوعيات أن "شابا مراوغا يتحيّل على خرّيجي
الجامعات والمتنازعين بدعوى حل مشاكلهم!"، وذكرت
الصحيفة أن المتحيّل ارتكب سلسلة من القضايا بعد إيهام ضحاياه بتمكينهم من شغل من
خلال علاقته ببعض المسؤولين. كما ذكرت أسبوعية أخرى صادرة أن "مهندسا مزيّفا
يلهف أموال الباحثين عن شغل!".
ومن بين القضايا التحيّليّة الناتجة عن الطمع والرغبة في التملّك نذكر
قضيّة "وزراء
وجنرالات أفارقة وهميون يتحيّلون على رجال أعمال تونسيين" ، وتحدّثت بعض الصحف بداية هذه السنة عن متحيّلين يوهمون رجل
أعمال بكميّة من الذهب ويطلبون منه أربعين ألف دينار ثم يقتلوه بحجر بعد أن
استحوذوا على أمواله.
أمّا على المستوى السياسي فإنّنا سجلنا العديد
من الحالات التي تم فيها استثمار ثقافة الوهم أثناء فترة الحملات الانتخابية،
فبمناسبة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لسنة 2004 عبّرت العديد من وسائل
الإعلام التونسية عن تحيّزها للحزب الحاكم عبر مسابقات تتضمّن دعاية غير مباشرة
لبرنامجه الانتخابي ولـ"الانجازات" التي تحققت في الفترة السابقة.
من خلال ما تقدّم نلاحظ أن ثقافة الوهم والرغبة
الجامحة في الثراء المفاجئ ودون أي مجهود لدى المواطن التونسي تعكس بشكل أو بآخر
محدوديّة الحلول الواقعيّة لتجاوز الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد ويعانيها
المواطن، فبعد فشل وعجز الحلول العملية أصبح التونسي يلتجأ للحلول الوهمية، ووجدت
العديد من المؤسسات العاملة في قطاع الإنتاج أو الخدمات في هذا الاستعداد فرصتها
لمزيد استغلال المواطنين وإبعادهم عن حقيقة الوضع الذي يعيشون فيه.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire